"وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ": حكمة الابتلاء في حفظ التوازن

 







تُعد الآية الكريمة "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" (البقرة: 251) من الآيات المحورية في فهم فلسفة الصراع والابتلاء في القرآن الكريم. إنها تكشف عن حكمة إلهية عميقة في إدارة شؤون الكون والبشر، مُظهرة أن التدافع والاختلاف، وإن بدا سلبًا للوهلة الأولى، هو في حقيقته ضرورة للحفاظ على النظام ومنع الفساد الشامل.


هذه الآية الكريمة، والآيات المشابهة لها في القرآن، تؤسس لمبدأ أن وجود قوى متصارعة، أو تدافع بين الحق والباطل، الخير والشر، الظلم والعدل، هو آلية إلهية لمنع استبداد قوة واحدة والتحكم المطلق، مما يؤدي حتمًا إلى الفساد.



ابن كثير:

يشير الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية إلى أن الله يدفع بعض الناس ببعض؛ أي أن الكفار لو انتصروا على المؤمنين لفسدت الأرض بظلمهم وفسادهم، ولما قامت عبادة الله. وهذا الدفع يشمل الجهاد الذي فرضه الله على المسلمين لإعلاء كلمته والدفاع عن الحق. فدفع الله بعض الخلق ببعض هو من لطفه بعباده وحفظه لدينه وشريعته.


الشعراوي:

يُقدم الإمام محمد متولي الشعراوي تفسيرًا عميقًا لهذه الآية، يوسع فيه مفهوم "الدفع" ليشمل جوانب متعددة. يرى الشعراوي أن هذا الدفع ليس محصورًا في الصراع العسكري فحسب، بل يتجاوزه ليشمل التنافس الحضاري، والتدافع الفكري، وحتى التناقضات الداخلية في النفس البشرية.


يقول الشعراوي إن الفساد قد ينشأ من ترك الأشرار يفعلون ما يشاءون دون رادع. فلو أن الظالم ترك لظلمه دون من يقاومه، لعم الظلم كل الأرض. ولو أن المستبد ترك لاستبداده، لأفسد الحياة. هذا الدفع هو حماية للمؤمنين وللحق، وهو ضرورة لإبقاء الشر في حجمه الطبيعي، ومنعه من التوسع بلا حدود. إنها حكمة إلهية تمنع سيطرة الشر المطلقة، وتتيح للخير فرصة الظهور والنمو.


ويضيف الشعراوي أن الفضل الإلهي يكمن في إتاحة هذه الفرصة، فلو ترك الشر ينتشر دون مقاومة، لعم الفساد، ولانعدم وجود الصالحين والقادرين على إصلاح الأرض. فالله، بفضله، يزرع في النفس البشرية عوامل المقاومة والتدافع، لئلا تستسلم للفساد الشامل.



تتكرر فكرة الدفع والتدافع في القرآن الكريم بصور مختلفة لتأكيد هذا المبدأ:


"وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا" (الحج: 40): هذه الآية تربط الدفع بحماية دور العبادة، وتؤكد أن مقاومة الظلم هي ضرورة للحفاظ على حرية العبادة وإعلاء كلمة الله. فلو ترك الظالمون يستبدون، لما بقيت بيوت للعبادة قائمة.


"فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ" (الرعد: 17): على الرغم من أنها لا تتحدث عن "الدفع" بشكل مباشر، إلا أنها تعبر عن فكرة أن الصراع والابتلاء يكشفان الحق ويزيلان الباطل، تمامًا كالماء الذي يحمل الزبد ثم يلقيه جانبًا، تاركًا ما ينفع الناس. إنها عملية "تدافع" بين العناصر المختلفة، ينتج عنها بقاء الأنفع والأصوب.


 الابتلاء في الحياة: فضل إلهي وحكمة بالغة


إن مفهوم الدفع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الابتلاء. فالدفع يخلق نوعًا من الابتلاء، حيث يواجه الناس صعوبات وتحديات وصراعات. لكن القرآن الكريم، والفلسفة الإسلامية عمومًا، تنظر إلى الابتلاء ليس كعقاب محض، بل كفضل إلهي وحكمة بالغة


الابتلاء وسيلة للتطهر والتزكية: يطهر النفس من الذنوب والعيوب، ويُزكيها بالصبر والشكر والتوكل على الله.

الابتلاء يكشف الحقائق: يكشف معادن الناس، ويميز الصادق من الكاذب، والقوي من الضعيف. كما أنه يكشف الأخطاء ويوجه إلى الصواب.

الابتلاء يدفع للنمو والتطور: الصعاب تدفع الإنسان إلى التفكير والاجتهاد والبحث عن الحلول، مما يؤدي إلى التطور والتقدم على المستويات الفردية والمجتمعية.


الأنبياء الأكثر ابتلاءً:

من اللافت أن القرآن الكريم يصور الأنبياء والرسل، وهم أفضل الخلق وأحبهم إلى الله، على أنهم الأكثر ابتلاءً. فعلى سبيل المثال:


*سيدنا أيوب عليه السلام: ابتلي بالمرض الشديد وفقدان المال والأولاد، ولكنه صبر صبرًا جميلاً، فكان مضرب المثل في الصبر والتوكل.

سيدنا يوسف عليه السلام: ابتلي بالحسد من إخوته، ثم بالسجن والافتراء، ولكنه تحول من هذه المحن إلى حاكم وعالم.

سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: واجه صنوفًا من الأذى والتكذيب والطرد والحروب، ولكنه صبر وثابر حتى أتم الرسالة.


هذا يؤكد أن الابتلاء ليس دليلاً على غضب الله أو عدم محبته، بل هو في كثير من الأحيان علامة على علو القدر والمنزلة، ووسيلة لتمحيص الصادقين ورفع درجاتهم. لو كانت الحياة خالية من الابتلاء، لما ظهرت فضائل الصبر والشجاعة والمثابرة، ولما تميز الصالح من غيره. إن الابتلاء يخرج أفضل ما في الإنسان، ويجعله أكثر قربًا من خالقه.


- الرفاهية المفرطة والابتلاء باليأس: ظاهرة الانتحار


في المقابل، نجد أن غياب الابتلاء الحقيقي والتحديات الجوهرية في بعض المجتمعات الحديثة، التي تتمتع برفاهية مادية غير مسبوقة، قد أدى إلى نوع آخر من "الفساد" أو الخلل: الفساد النفسي والروحي.


في دول مثل النرويج والدنمارك وفنلندا، التي تُصنف باستمرار على أنها من أسعد دول العالم من حيث الرفاهية الاقتصادية والاجودة المعيشية والخدمات الاجتماعية، نجد أن معدلات الانتحار، خاصة بين الشباب، ليست قليلة بالضرورة، وفي بعض الفترات كانت مرتفعة نسبيًا مقارنة بدول أخرى أقل رفاهية. هذا التناقض يثير تساؤلات حول طبيعة السعادة الحقيقية وأثر غياب التحديات الحياتية.



من كتاب "الإنسان يبحث عن معنى" لـ فيكتور فرانكل:

    "إن ما يحتاج إليه الإنسان ليس حالة خالية من التوتر، بل صراع وكفاح من أجل هدف جدير بالاهتمام، وغرض يُختار بحرية."

   

    فرانكل، الذي نجا من معسكرات الاعتقال النازية، يرى أن المعاناة والبحث عن معنى في الحياة هما أساس الوجود الإنساني. الرفاهية المفرطة التي ترفع كل التحديات قد تُفرغ الحياة من معناها، وتخلق شعورًا بالخواء واليأس. الابتلاء، في هذا السياق، يوفر "صراعًا وكفاحًا" ضروريين للمعنى والنمو.


من كتاب "صراع من أجل المعنى" لـ بيتر برجر:

    "الألم والمعاناة ليسا مجرد اضطرابات في الحياة؛ بل هما جزء لا يتجزأ من النجر البشري، وهما في الواقع شرطان أساسيان لتطور وعينا الأخلاقي."

    

    يؤكد برجر أن المعاناة ليست شيئًا يجب تجنبه بالكامل، بل هي جزء أساسي من التطور الإنساني. غياب المعاناة الحقيقية، وغياب التدافع، قد يؤدي إلى ضمور الوعي الأخلاقي والشعور بالغاية. هذا يفسر جزئيًا لماذا قد يجد الأفراد في مجتمعات الرفاهية أنفسهم في فخ اليأس أو الانتحار؛ فالروح البشرية تحتاج إلى تحديات لتنمو وتجد معناها.


في مجتمعات الرفاهية، حيث يتم تلبية جميع الاحتياجات الأساسية، وقد لا يواجه الأفراد تحديات كبرى مثل الفقر المدقع أو الحروب أو الأمراض الوبائية المنتشرة، قد يتحول الصراع من صراع خارجي (البقاء، الموارد) إلى صراع داخلي وجودي. يواجه الأفراد فراغًا روحيًا، وشعورًا بعدم الغاية، أو ضغطًا اجتماعيًا لتحقيق "السعادة المطلقة" التي قد تكون وهماً.


مثال: قد يشعر الشاب الذي لديه كل شيء مادي بالضياع أو الملل، بينما قد يجد الشاب الذي يكافح من أجل لقمة العيش أو تحقيق هدف بسيط معنى في كل خطوة يخطوها. التدافع والصراع، وإن كانا مؤلمين، يجعلان الحياة ذات قيمة ويفرضان على الإنسان التفكير والاجتهاد والنمو.



إن الآية الكريمة "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ" ليست مجرد وصف لواقع، بل هي حكمة إلهية عميقة تضيء لنا مسار فهم الحياة. إنها تعلمنا أن الصراع، الابتلاء، والتحديات، ليست كلها شرًا محضًا، بل هي آليات إلهية للحفاظ على التوازن، ولتحقيق النمو، وللكشف عن حقيقة البشر. فلو خلت الحياة من أي تدافع، لاستبدت قوة واحدة أو رؤية واحدة، ولعم الفساد الشامل، سواء كان فسادًا ماديًا أو روحيًا. إن فضل الله على العالمين يتجلى في إتاحة هذه العملية الديناميكية التي تضمن تجدد الحياة واستمرار الصراع بين الحق والباطل، ليبقى الأمل في الإصلاح والتغيير قائمًا.



كيف يمكن للمجتمعات الحديثة، التي تعيش في عصر الرفاهية النسبية، أن تعيد اكتشاف قيمة التحديات والابتلاءات بطرق بنّاءة تساهم في تعزيز الصحة النفسية والاجتماعية، وتجنب الفراغ الوجودي؟

تعليقات