كتاب المتلاعبون بالعقول \ هربرت شيلر
كتاب "المتلاعبون بالعقول" للمؤلف هربرت شيلر، والذي نُشر عام 1973، يقدم تحليلًا نقديًا عميقًا لكيفية تأثير وسائل الإعلام في تشكيل الوعي العام والسيطرة عليه في المجتمع الأمريكي، وكيف يتم تصدير هذه الآليات الثقافية إلى بقية دول العالم. يمكن تلخيص الأفكار الرئيسية للكتاب في النقاط التالية:
1. نقد صناعة الوعي: يرى شيلر أن هناك صناعة نشطة تعمل على إنتاج وتوزيع "وعي مُعلب" عبر وسائل الإعلام، حيث تقوم مجموعة من الشركات الكبرى والمؤسسات المؤثرة بصياغة الرسائل والمعلومات التي تصل إلى الجمهور. هذا الوعي ليس محايدًا بل يخدم مصالح هذه القوى المهيمنة.
2. تفكيك أساطير الإعلام: يكشف شيلر عن خمس أساطير رئيسية تروجها وسائل الإعلام وتعمل على تضليل الجمهور وإخفاء آليات السيطرة الحقيقية:
* أسطورة الفردية والاختيار الشخصي: يتم التركيز على حرية الفرد واختياراته، مع تجاهل التأثيرات الهائلة للمجتمع ووسائل الإعلام في تشكيل هذه الاختيارات.
* أسطورة الحياد: تدعي وسائل الإعلام أنها تقدم معلومات محايدة وموضوعية، بينما هي في الواقع تحمل أجندات خفية وتوجهات معينة.
* أسطورة الطبيعة الإنسانية الثابتة: يتم تقديم تفسيرات للظواهر الاجتماعية بناءً على طبيعة إنسانية ثابتة وغير قابلة للتغيير، مما يعيق فهم العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المؤثرة.
* أسطورة غياب الصراع الاجتماعي: يتم تجاهل أو تهميش الصراعات الطبقية والاجتماعية الحقيقية، وتقديم صورة متجانسة للمجتمع.
* أسطورة التعددية الإعلامية: على الرغم من وجود عدد كبير من وسائل الإعلام، إلا أنها غالبًا ما تقع تحت سيطرة عدد قليل من الشركات الكبرى التي تروج لأفكار مماثلة.
3. دور التكنولوجيا والإعلان: يوضح شيلر كيف يتم استخدام التكنولوجيا الحديثة وتقنيات الإعلان المتطورة لتعزيز هذه الأساطير والتأثير على سلوك المستهلكين وقيمهم ومعتقداتهم. يتم تحويل الأخبار والمعلومات إلى سلع تخضع لقوانين السوق.
4. نقد الليبرالية: يتضمن الكتاب نقدًا ضمنيًا للرؤية الليبرالية الكلاسيكية التي تفترض وجود سوق أفكار حرة ومنافسة عادلة بين الآراء. يرى شيلر أن هذا السوق مشوه بفعل القوى المهيمنة التي تملك القدرة على نشر أفكارها وتهميش الأصوات الأخرى.
5. أهمية الوعي النقدي: يدعو شيلر إلى تطوير الوعي النقدي لدى الجمهور لفهم كيفية عمل وسائل الإعلام وكشف الأساطير التي تروجها. يعتبر الوعي النقدي أداة ضرورية لمقاومة التلاعب بالعقول والحفاظ على حرية الفكر والاختيار الحقيقي.
اقتباس :
"إن صناعة الوعي، التي تشمل وسائل الإعلام والتعليم والدعاية، هي أداة قوية في يد أولئك الذين يملكونها. إنها تحدد ما نفكر فيه، وما نشعر به، وكيف نرى العالم."
يوضح هذا الاقتباس جوهر حجّة شيلر. فهو يشير إلى أن الوعي ليس معطى طبيعيًا أو عملية فردية خالصة، بل هو نتاج صناعة اجتماعية. القوى التي تسيطر على هذه الصناعة تمتلك القدرة على تشكيل إدراكنا للواقع، وتحديد أولوياتنا وقيمنا. هذا يمس جوهر النقاشات الفلسفية حول الذات والهوية والمعرفة، حيث يصبح الفرد أقل استقلالية وأكثر خضوعًا لتأثيرات خارجية غير مرئية.
تفكيك الأساطير الإعلامية كمنهج فلسفي: يعتمد شيلر على تفكيك ما يسميه "الأساطير الإعلامية" ليكشف عن آليات التلاعب. هذه الأساطير ليست مجرد أكاذيب بسيطة، بل هي أنظمة اعتقادية متجذرة تعمل على إخفاء الحقائق وتبرير الوضع الراهن.
اقتباس (أسطورة الفردية والاختيار):
"يتم الاحتفاء بالفردية والاختيار الشخصي بشكل مستمر، ولكن في الواقع، يتم توجيه هذه الاختيارات وتحديدها ضمن نطاق ضيق من الاحتمالات التي تحددها صناعة الوعي."
هنا ينتقد شيلر التركيز المفرط على الفردانية في الفكر الليبرالي. بينما يتم التأكيد على حرية الفرد وقدرته على اتخاذ قرارات مستقلة، يشير شيلر إلى أن هذه القرارات غالبًا ما تكون مُسبقة التشكيل من خلال الرسائل الإعلامية التي تروج لأنماط استهلاكية وقيم معينة. هذا يثير تساؤلات فلسفية حول طبيعة الحرية والإرادة الحرة في مجتمع تهيمن عليه قوى خارجية قادرة على التأثير على أعمق رغباتنا وتطلعاتنا.
اقتباس (أسطورة الحياد):
"إن ادعاء وسائل الإعلام بالحياد والموضوعية هو قناع يخفي أجندات ومصالح محددة. لا توجد معلومات محايدة تمامًا، فكل عملية اختيار وتقديم للحقائق تتضمن بالضرورة وجهة نظر معينة."
يتحدى هذا الاقتباس مفهوم الموضوعية المطلقة في المعرفة. من المنظور الفلسفي، يؤكد شيلر على أن كل معرفة هي ذات سياق وتتأثر بمن ينتجها وينشرها. ادعاء الحياد هو أداة أيديولوجية لإضفاء الشرعية على وجهة نظر معينة وتجاهل وجهات النظر الأخرى. هذا يتقاطع مع النقاشات الفلسفية حول نظرية المعرفة وطبيعة الحقيقة.
التأثير الفلسفي الأوسع: يمتد تأثير كتاب "المتلاعبون بالعقول" إلى ما هو أبعد من مجرد نقد لوسائل الإعلام. إنه يقدم رؤية فلسفية أعمق حول طبيعة السلطة في المجتمعات الحديثة. لم تعد السلطة تعتمد فقط على القوة القسرية، بل أصبحت تعتمد بشكل متزايد على القدرة على تشكيل الوعي والسيطرة على الأفكار. هذا يفتح الباب أمام تساؤلات فلسفية حول طبيعة الديمقراطية والمشاركة السياسية في ظل هيمنة صناعة الوعي.
الخلاصة الفلسفية: يمثل كتاب "المتلاعبون بالعقول" دعوة فلسفية للتفكير النقدي والتحرر من الأوهام التي تخلقها صناعة الوعي المهيمنة. إنه يؤكد على أهمية فهم الآليات الخفية التي تشكل تصوراتنا للواقع، ويدعونا إلى استعادة استقلاليتنا الفكرية ومقاومة التلاعب الذي يهدف إلى خدمة مصالح القلة على حساب الأغلبية. إن الكتاب يثير تساؤلات جوهرية حول طبيعة الحقيقة والسلطة والحرية في عصر الإعلام الجماهيري.
تعليقات
إرسال تعليق