النظارة الوردية \ جاك لاكان

 





جاك لاكان، محلل نفسي وفيلسوف فرنسي، لم يستخدم مصطلح "النظارة الوردية" بشكل مباشر في أعماله. هذا المصطلح الشائع يشير إلى رؤية العالم بطريقة مثالية ومتفائلة بشكل مفرط، متجاهلًا السلبيات والصعوبات. ومع ذلك، يمكننا أن نربط هذا المفهوم ببعض أفكار لاكان الأساسية حول الرغبة، الخيال، والواقع.


الرغبة والموضوع "أ" الصغير (Objet petit a)

يرى لاكان أن الرغبة ليست مجرد تلبية حاجة، بل هي رغبة في رغبة الآخر. الإنسان لا يرغب في الشيء لذاته، بل يرغب فيه لأنه يرى أن الآخر (الموضوع المرغوب) يرغب فيه أيضًا، مما يجعله يمثل شيئًا مفقودًا. هنا يأتي دور الموضوع "أ" الصغير (objet petit a)، وهو موضوع الرغبة الذي لا يمكن الوصول إليه أبدًا. هو ما يبقى خارج إطار التخييل والرمزية، وهو السبب الذي يجعل رغبتنا لا تُشبع أبدًا.


إذا ربطنا هذا بمفهوم "النظارة الوردية"، يمكننا القول إن من يرتديها يعيش في وهم أن سعادته تكمن في امتلاك شيء معين أو تحقيق هدف ما. هذا الشيء المادي أو المعنوي هو "الموضوع أ" بالنسبة له، والذي يعتقد أنه سيجلب له السعادة المطلقة. لكن حسب لاكان، هذا الموضوع دائمًا ما يظل خارج متناولنا، مما يسبب خيبة الأمل.


مرحلة المرآة

تعد مرحلة المرآة من أهم مفاهيم لاكان، وهي المرحلة التي يبني فيها الطفل "الأنا" (ego) من خلال صورة نفسه في المرآة أو من خلال الآخرين. يرى الطفل صورة كاملة وموحدة لنفسه، على عكس شعوره الداخلي بالتجزؤ والضعف. هذه الصورة المثالية التي يراها في المرآة هي بداية وهم "الأنا" الكامل والمساند، وهي صورة لا تتطابق مع واقعه المتنافر.


"النظارة الوردية" هنا تمثل هذا "الأنا" المثالي الذي يرتديه الفرد طوعًا ليختبئ من واقعه المتجزئ وغير الكامل. بدلاً من التعامل مع الصراعات الداخلية والتناقضات، يختار الفرد أن يرى نفسه والعالم بصورة مثالية وغير حقيقية، مما يمنعه من مواجهة الحقيقة.


الواقع والرمزي والتخييلي

قسّم لاكان الحياة النفسية إلى ثلاثة مستويات:


الواقع (The Real): هو ما لا يمكن تصوره أو التعبير عنه باللغة. إنه جوهر الصدمة أو الحقيقة التي لا يمكن استيعابها.


الرمزي (The Symbolic): هو عالم اللغة والثقافة والقوانين التي نعيش في إطارها.


التخييلي (The Imaginary): هو عالم الصورة، حيث يتشكل وهم "الأنا" الكامل.


ارتداء "النظارة الوردية" هو الانغماس في المستوى التخييلي، حيث يرى الفرد نسخة مثالية من الواقع لا وجود لها في الحقيقة. هذا الهروب من "الواقع" المؤلم إلى "التخييلي" المريح يمنع الفرد من النمو.

منظور جاك لاكان حول "النظارة الوردية" يتجاوز مجرد فكرة التفاؤل المفرط، بل يربطه بشكل أساسي بالمستويات الثلاثة للحياة النفسية: الواقع، الرمزي، والتخييلي.


1. الهروب من الواقع (The Real)

بالنسبة للاكان، الواقع هو ما لا يمكن تصوره، فهمه، أو التعبير عنه باللغة. إنه جوهر الحقيقة المؤلمة، الصدمة التي لا يمكن استيعابها، والفراغ الذي لا يمكن ملؤه. "النظارة الوردية" هنا ليست فقط أداة لتزيين العالم، بل هي حاجز دفاعي يضعه الفرد بينه وبين هذا الواقع المؤلم. بدلاً من مواجهة حقيقة أن الحياة مليئة بالنقص، الخسارة، والموت، يختار الفرد أن يعيش في عالم وهمي حيث كل شيء ممكن.


مثال: شخص يرى علاقة عاطفية فاشلة على أنها مجرد "عثرة بسيطة" وأن شريكه سيعود حتماً، يتجاهل كل الإشارات التي تدل على نهاية العلاقة. هذا الانغماس في الوهم يحميه من مواجهة حقيقة الفراق المؤلمة.


2. الانغماس في التخييلي (The Imaginary)

يُعد التخييلي عالم الصورة، حيث يبني الفرد صوراً مثالية لنفسه وللآخرين. هذه الصور لا تتطابق مع الحقيقة، بل هي نسخ مزيفة ومثالية من الواقع. يرى الفرد نفسه في صورة البطل الذي لا يُهزم، والشخصية المحبوبة من الجميع، وكل ذلك يتناقض مع حقيقته المليئة بالضعف والتناقضات. "النظارة الوردية" هي الأداة التي تعكس هذا العالم التخييلي.


مرحلة المرآة: يمكن ربط هذا المفهوم بمرحلة المرآة عند لاكان، حيث يرى الطفل صورة كاملة لنفسه في المرآة، في حين أنه يشعر بالضعف والتجزؤ في داخله. هذه الصورة المثالية هي أساس "الأنا" الوهمي، وهو نفس "الأنا" الذي يعززه من يرتدي "النظارة الوردية". هو يرى نفسه في مرآة الحياة بشكل مثالي، بينما في الواقع، هو شخص غير مكتمل.


3. إعاقة النمو النفسي

يؤكد لاكان أن النمو النفسي الحقيقي يحدث عندما ينتقل الفرد من عالم "التخييلي" إلى عالم "الرمزي". الرمزي هو عالم اللغة، القوانين، والثقافة، وهو العالم الذي يسمح لنا بالتعامل مع النقص والفقدان. "النظارة الوردية" تمنع هذا الانتقال.


الرغبة المجهضة: من يرتدي "النظارة الوردية" يعتقد أن تحقيق سعادته يكمن في امتلاك شيء ما أو الوصول إلى هدف معين، وهو ما يطلق عليه لاكان "الموضوع أ" (objet petit a). هذا الموضوع هو ما يعتقد الفرد أنه سيجعله كاملاً، لكنه في الواقع شيء لا يمكن امتلاكه. كلما سعى الفرد لتحقيق هذا الوهم، زادت خيبة أمله، مما يجعله يعود إلى وهم جديد. هذه الدورة المفرغة تمنعه من النمو.


هل "النظارة الوردية" سلبية بالكامل؟

من منظور لاكان، نعم. فهي آلية دفاعية تمنع الفرد من مواجهة الحقيقة والنمو. يرى لاكان أن المواجهة الصادقة مع النقص والضعف هي السبيل الوحيد للوصول إلى فهم أعمق للذات. ولكن من الضروري ملاحظة أن هناك نظريات أخرى ترى أن التفاؤل المعتدل والإيجابية مهمان للمرونة النفسية. الفارق هنا يكمن في درجة الوعي:


التفاؤل الصحي: هو القدرة على رؤية الجانب المشرق مع الوعي بالصعوبات.


"النظارة الوردية": هي إنكار كامل لوجود الصعوبات، مما يجعل الفرد غير قادر على التعامل معها عند مواجهتها.



من منظور لاكان، "النظارة الوردية" ليست مجرد تعبير عن التفاؤل، بل هي آلية دفاعية تتخذ شكل الوهم. هي وسيلة للهروب من الواقع المُرّ وغير المكتمل، إلى عالم من الصور المثالية التي لا وجود لها إلا في عقل الفرد. لاكان يدعونا إلى مواجهة هذا الواقع، حتى لو كان مؤلمًا، بدلًا من الاختباء خلف نظارات وردية.


كيف يمكن للفرد أن يوازن بين مواجهة واقع الحياة القاسي وبين الحاجة إلى الأمل والتفاؤل لتحقيق النجاح؟







تعليقات