"الإنسان والبحث عن المعنى" لفيكتور فرانكل

 



يُعدّ كتاب "الإنسان والبحث عن المعنى" (Man's Search for Meaning) للعالم النفسي والطبيب النفسي النمساوي فيكتور فرانكل، واحدًا من أهم الأعمال الأدبية والنفسية في القرن العشرين. لا يقتصر هذا الكتاب على كونه سردًا شخصيًا لتجربة فرانكل المروعة في معسكرات الاعتقال النازية، بل يتجاوز ذلك ليقدم نظرية نفسية متكاملة تُعرف باسم "العلاج بالمعنى" (Logotherapy). يقدم فرانكل في هذا العمل رؤية ثورية حول الطبيعة البشرية، مؤكدًا أن السعي لإيجاد معنى للحياة هو القوة الدافعة الأساسية للإنسان، حتى في أحلك الظروف.


ينقسم الكتاب إلى جزأين رئيسيين. الجزء الأول هو سرد واقعي ومؤثر لتجارب فرانكل كمعتقل في أوشفيتز ومعسكرات اعتقال أخرى. يصف فرانكل ببراعة الحياة اليومية المرعبة في هذه المعسكرات، من الجوع والبرد والإهانة إلى العنف واليأس والموت المحقق. ولكن، على عكس العديد من الروايات المشابهة، لا يركز فرانكل فقط على الوحشية الخارجية، بل يتعمق في التجربة النفسية للمسجونين. يلاحظ كيف أن البعض، بالرغم من الظروف القاسية، تمكنوا من الحفاظ على كرامتهم الداخلية والشعور بالهدف، بينما استسلم آخرون لليأس والموت الروحي قبل الموت الجسدي.


يُعدّ هذا الجزء بمثابة المختبر الإنساني الذي أُنشئت فيه نظرية فرانكل. لقد رأى بنفسه كيف أن أولئك الذين فقدوا كل شيء – عائلاتهم، حريتهم، ممتلكاتهم – ما زالوا يملكون شيئًا واحدًا لا يمكن لأحد أن ينتزعه منهم: حرية اختيار موقفهم تجاه ما يحدث لهم. هذه الفكرة الجوهرية هي حجر الزاوية في فلسفة فرانكل.


أما الجزء الثاني من الكتاب، فيشرح فرانكل فيه مبادئ العلاج بالمعنى (Logotherapy) بالتفصيل. يعتبر العلاج بالمعنى أن الهدف الأساسي للعلاج النفسي هو مساعدة الأفراد على اكتشاف معنى لحياتهم. يرى فرانكل أن الكثير من الأمراض النفسية، مثل الاكتئاب والقلق والعدمية، تنبع من "الفراغ الوجودي" أو الشعور بانعدام المعنى. لا يسعى العلاج بالمعنى إلى إزالة التوتر، بل إلى توجيه المريض نحو معنى يؤدي إلى إنجازات حقيقية.


يقترح فرانكل ثلاث طرق رئيسية يمكن للإنسان من خلالها اكتشاف معنى لحياته:


عن طريق خلق عمل أو إنجاز: يمكن للمعنى أن يُكتشف في العمل المنتج، سواء كان مهنة، هواية، أو أي شكل من أشكال المساهمة في العالم. ليس بالضرورة أن يكون العمل عظيمًا أو مشهورًا، بل يكفي أن يكون له قيمة شخصية للمرء.


عن طريق تجربة شيء أو مقابلة شخص: يمكن إيجاد المعنى في العلاقات الإنسانية العميقة، الحب، وتقدير الجمال في الفن والطبيعة. تجارب مثل مشاهدة غروب الشمس، الاستماع إلى قطعة موسيقية رائعة، أو لحظات المودة مع شخص محبوب يمكن أن تضفي معنى على الوجود.


عن طريق الموقف الذي نتخذه تجاه المعاناة الحتمية: هذه هي النقطة الأكثر تميزًا في فكر فرانكل. يرى أن المعاناة جزء لا يتجزأ من الحياة، ولا يمكن تجنبها دائمًا. ولكن، حتى في وجه المعاناة التي لا يمكن تغييرها، يمتلك الإنسان الحرية في اختيار موقفه تجاهها. يمكن للمعاناة أن تتحول إلى إنجاز إذا تمكن الإنسان من إيجاد معنى لها، مثل النمو الشخصي، التعاطف مع الآخرين، أو إلهام الأمل.


"الإنسان هو الكائن الذي يخترع معناه الخاص":


 يلخص هذا الاقتباس الفكرة الأساسية للعلاج بالمعنى. لا يولد الإنسان بمعنى جاهز للحياة، بل هو المسؤول عن اكتشاف وتكوين هذا المعنى. هذه المسؤولية لا تُفرض عليه، بل هي فرصة للنمو والتحقيق الذاتي. حتى في ظل الظروف القاسية، يظل للإنسان هذه الحرية الداخلية التي لا يمكن سلبها.


"كل شيء يمكن أن يُنتزع من الإنسان، إلا شيء واحد: آخر الحريات البشرية - أن يختار موقفه في أي مجموعة معينة من الظروف، أن يختار طريقه الخاص":


 هذا الاقتباس هو خلاصة تجربة فرانكل في المعسكرات. لقد شهد بأم عينيه كيف سُلبت من البشر كل ممتلكاتهم، وعائلاتهم، وكرامتهم، وحريتهم الجسدية. ولكن الشيء الوحيد الذي لم يتمكن الجلادون من سلبه هو حرية الإنسان في تحديد موقفه الداخلي. هذه الحرية هي التي سمحت للبعض بالحفاظ على إنسانيتهم وأملهم، بينما استسلم آخرون لليأس. هذا الاقتباس هو دعوة قوية للتحمل والصمود في وجه الشدائد.


"إن المعنى يختلف من شخص لآخر، ومن يوم ليوم، ومن ساعة لساعة. لذلك، لا يمكن الحديث عن معنى الحياة بصفة عامة":


 يؤكد فرانكل هنا على الطابع الفردي والفريد للمعنى. لا يوجد معنى واحد يناسب الجميع، ولا توجد "وصفة سحرية" لاكتشاف المعنى. يجب على كل فرد أن يبحث عن معناه الخاص به، والذي يتغير ويتطور مع تغير ظروف حياته وتجاربه. هذا يعني أن البحث عن المعنى هو عملية مستمرة وديناميكية.


"إذا كان هناك معنى في الحياة على الإطلاق، فيجب أن يكون هناك معنى في المعاناة. فالمعاناة جزء لا يتجزأ من الحياة، تمامًا كما أن القدر والموت كذلك. بدون المعاناة والموت، لا يمكن أن تكون حياة الإنسان كاملة":


 هذا الاقتباس يمثل جوهر موقف فرانكل من المعاناة. يرفض فكرة أن المعاناة لا قيمة لها أو أنها مجرد عقبة يجب تجنبها. بدلاً من ذلك، يرى أن المعاناة، إذا ما تم التعامل معها بالشكل الصحيح، يمكن أن تكون مصدرًا عميقًا للمعنى والنمو الشخصي. إنها تضع الإنسان في مواجهة أعمق أسئلة الوجود، وتكشف عن قوة داخلية لم يكن يعلم بوجودها.


"إن السعي وراء اللذة هو الذي يفسد اللذة. إن السعي وراء السعادة هو الذي يفسد السعادة":


 يرى فرانكل أن السعادة واللذة ليسا هدفين مباشرين يمكن السعي إليهما وتحقيقهما. بدلاً من ذلك، هما نتاج جانبي (أثر جانبي) لتحقيق المعنى. عندما يجد الإنسان معنى لحياته ويسعى لتحقيقه، تأتي السعادة واللذة كنتيجة طبيعية لذلك. محاولة مطاردة السعادة مباشرة غالبًا ما تؤدي إلى الإحباط والشعور بالفراغ.



يُعدّ كتاب "الإنسان والبحث عن المعنى" شهادة حية على مرونة الروح البشرية وقدرتها على إيجاد الأمل والمعنى حتى في أشد الظروف قسوة. إنه ليس مجرد قصة رعب وبقاء، بل هو دليل عملي لعيش حياة ذات مغزى. رسالة فرانكل الأزلية هي أن الحياة تضعنا أمام تحديات مستمرة، ولكننا نمتلك دائمًا الحرية لاختيار استجابتنا لتلك التحديات. يذكرنا الكتاب بأن المعنى ليس شيئًا يُعطى لنا، بل هو شيء نكتشفه ونخلقه بأنفسنا من خلال أفعالنا، علاقاتنا، ومواقفنا تجاه الحياة والمعاناة. إن قراءة هذا الكتاب تجربة تحويلية تدفع القارئ إلى التفكير بعمق في غاية وجوده وكيف يمكنه أن يجعل حياته أكثر إنسانية وهدفًا.


بعد قراءتك عن رؤية فيكتور فرانكل للمعنى في الحياة، كيف يمكن تطبيق هذه المبادئ في حياتك اليومية لمواجهة التحديات أو إيجاد هدف أكبر، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي قد تمر بها؟

تعليقات