القضاء والقدر في سورة يونس: حقيقة الإنسان بين التسيير والتخيير
تُعدّ سورة يونس من السور المكية العظيمة التي تُعنى بتثبيت أصول العقيدة الإسلامية، ومن أبرز هذه الأصول الإيمان بالقضاء والقدر. هذا الركن الإيماني يشغل بال الكثيرين، ويثير لديهم تساؤلات حول مدى حرية الإنسان في أفعاله، وهل هو مسيّر يخضع لمشيئة الله المحتومة، أم مخيّر يملك إرادته واختياره؟ يجد الكثير من الناس أنفسهم في حيرة وتساؤلات حول هذه المسألة، وقد يصل بهم الأمر إلى التشكيك في حكمة الله وعدله. فكيف يمكن أن يكون الإنسان مسؤولًا عن أفعاله إذا كانت مقدرة عليه سلفًا؟ وهل الله يشاء الشر؟ سورة يونس تقدم إجابات شافية لهذه التساؤلات من خلال آياتها البليغة، موضحة أن الأمر ليس صراعًا بين إرادة الله وإرادة الإنسان، بل هو تكامل بينهما ضمن إطار من الحكمة الإلهية المطلقة.
تتناول سورة يونس العديد من الآيات التي تُسهم في فهم قضية القضاء والقدر، وتوضح رؤية القرآن الكريم لهذه المسألة الشائكة.
الآية الأولى: بيان شمول قدرة الله وعلمه
قال تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)"
تفسير الإمام الشعراوي: يشير الشعراوي إلى أن هذه الآية توضح أن الإيمان ليس مجرد أمر جبري يفرضه الله على خلقه. فالله قادر على أن يجعل الناس جميعًا يؤمنون دفعة واحدة، لو أراد، لكنه لم يفعل. لماذا؟ لأن الإيمان الحقيقي يكمن في الاختيار الحر للإنسان. فالله خلق الإنسان ومنحه القدرة على الاختيار بين الهدى والضلال، وهذا هو ما يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات. لو كان الإيمان جبرًا، لانتفت معه حكمة الاختبار والابتلاء، ولما كان هناك معنى للثواب والعقاب.
تفسير ابن كثير: يفسر ابن كثير الآية بأنها تسرية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأكيد على أن مهمته هي البلاغ والدعوة، وليس إجبار الناس على الإيمان. فالله سبحانه وتعالى لو أراد، لجعل الناس جميعًا مؤمنين بغير اختيار منهم، ولكن حكمته اقتضت أن يخلقهم ويجعل لهم إرادة واختيارًا، ليثيب من يؤمن باختياره، ويعاقب من يكفر باختياره. فالله لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
رؤية المفسرين: هذه الآية ترسخ مبدأ حرية الاختيار في قضية الإيمان. فالله يمنح الإنسان العقل والقدرة على التمييز، ويُرسل إليه الرسل والكتب ليرشده، ثم يتركه يختار طريقه. الإيمان هنا هو ثمرة قناعة شخصية، لا قسر إلهي. وهذا يزيل أي لبس حول "الجبر" في قضية الإيمان، ويؤكد على مسؤولية الإنسان الكاملة عن اختياراته.
الآية الثانية: توضيح أن الضر والنفع بيد الله وحده
قال تعالى: "قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۗ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۚ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)"
تفسير الإمام الشعراوي: يوضح الشعراوي في هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل الخلق، لا يملك لنفسه الضر والنفع إلا بإرادة الله ومشيئته. هذا يثبت أن كل شيء في الكون يخضع لإرادة الله المطلقة وقدره. كما أن لكل أمة أجلًا محددًا، لا يمكن تأخيره أو تقديمه. هذا التحديد الدقيق للآجال هو دليل على أن الله هو المدبر والمهيمن على كل شيء، وأن حياة الإنسان ومماته مقدرة بعلم الله وحكمته.
تفسير ابن كثير: يفسر ابن كثير الآية بأنها أمر من الله للنبي أن يعلن للمشركين أنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا إلا بإذن الله، فكيف يمكنه أن يأتي لهم بالآيات والمعجزات التي يقترحونها؟ وتتحدث الآية عن الآجال، وهو ما يؤكد أن أجل كل إنسان وأمة مقدر ومكتوب، وهذا يوضح أن الأقدار لا تتغير بحسب رغبات البشر.
رؤية المفسرين: هذه الآية ترسخ مبدأ شمولية القدرة الإلهية. إنها تجعل الإنسان يدرك أن كل ما يصيبه من خير أو شر، ليس من فعله المحض، بل هو يقع ضمن إطار قضاء الله وقدره. وهذا لا ينفي مسؤولية الإنسان عن أفعاله، بل يوجهه إلى أن يلجأ إلى الله في كل أموره، وأن يدرك أن الأسباب التي يأخذ بها الإنسان لا تأتي بنتائجها إلا بإذن الله ومشيئته. فالله هو خالق الأسباب والمسببات.
الآية الثالثة: حكمة الله في إرسال الرسل وتأخير العذاب
قال تعالى: "وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (48) قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۗ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۚ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)"
تفسير الإمام الشعراوي: يوضح الشعراوي هنا كيف أن المشركين كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن موعد العذاب، استهزاءً وتكذيبًا. فجاء الرد بأن هذا الأمر بيد الله وحده. وهذا يوضح أن الله لا يعجل بالعقوبة، بل يؤجلها لحكمة يعلمها. وهذا التأجيل ليس لأن الله عاجز، بل لأنه يعطي الناس فرصة للتوبة والعودة. فالله يريد الخير لعباده، ولكنه أيضًا عادل وحكيم في عقابه.
تفسير ابن كثير: يرى ابن كثير أن هذه الآيات جاءت ردًا على استعجال الكفار بالعذاب. وتأكيدًا على أن موعد وقوع العذاب، أو أي وعد إلهي آخر، هو من علم الله وحده. وهذا يؤكد على أن قضاء الله يأتي في وقته المحدد الذي لا يعلمه إلا هو.
رؤية المفسرين: تظهر هذه الآيات أن القضاء والقدر ليس مجرد حتمية لا يمكن الفرار منها، بل هو مرتبط أيضًا بحكمة الله ورحمته. فتأخير العذاب هو رحمة من الله، وإعطاء فرصة للتائبين، وهذا يؤكد أن القدر الإلهي ليس شرًا محضًا، بل هو مصطبغ بالرحمة والعدل.
الآية الرابعة: بيان شمول علم الله وقدرته
قال تعالى في سورة يونس:
﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ (يونس: 61)
تفسير الإمام الشعراوي لهذه الآية:
يُفَسّر الشعراوي هذه الآية بأنها تؤكد على شمول علم الله تعالى وإحاطته بكل شيء. لا يوجد شيء يغيب عن علمه، سواء كان صغيرًا كذرة أو أكبر منها. هذا العلم الشامل لا يعني إلغاء اختيار الإنسان. بل هو علم مسبق بما سيختاره الإنسان بإرادته الحرة. فالله يعلم ما سيحدث قبل أن يحدث، وهذا لا يجبر العبد على فعل شيء. هو كمن يعلم أن طالبًا معينًا سيجتهد وينجح، فعلمه بنجاحه لا يفرض عليه النجاح، بل هو نتيجة لاجتهاده. و"الكتاب المبين" هو اللوح المحفوظ الذي دُوّن فيه كل شيء قبل خلقه.
تفسير ابن كثير لهذه الآية:
يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية إنها دليل على علم الله المحيط بجميع الكائنات، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. فكل حركة وسكون، وكل عمل صادر من العباد، هو بعلم الله واطلاعه ومُشاهدته. وهذا لا ينافي قدرة العباد على الاختيار، بل هو تأكيد على أن الله تعالى قد أحاط علمًا بكل ما كان وما سيكون.
الآية الخامسة: الإذن الإلهي والمشيئة الكونية
قال تعالى:
﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (يونس: 100)
تفسير الإمام الشعراوي لهذه الآية:
يُوضح الشعراوي أن "إذن الله" هنا ليس إجبارًا على الإيمان أو الكفر، بل هو الإذن التكويني الذي يتعلق بإعطاء الإنسان القدرة على الاختيار والإرادة. فالله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان العقل والقدرة على التمييز، وهذا هو الإذن. فمن استخدم عقله ليتفكر في آيات الله ويعقلها، هداه الله للإيمان. ومن أعرض عن ذلك، جعل الله عليه "الرجس" وهو العذاب والضلال، لأنه لم يستغل القدرة التي منحت له. فالمسؤولية تقع على عاتق الإنسان في استخدام إرادته.
تفسير ابن كثير لهذه الآية:
يُشير ابن كثير إلى أن "إذن الله" هنا هو المشيئة الكونية القدرية التي بموجبها يوفق الله من يشاء للإيمان، ويخذل من يشاء بسبب كفره وعناده. فالله يهدي من يستحق الهداية بسبب سعيه وإرادته الخيرة، ويضل من يستحق الضلال بسبب عناده ومكابرته. فالمعنى أن الهداية والتوفيق من الله، ولكنها لا تمنع اختيار العبد، بل تأتي نصرًا وتأييدًا لتوجهه.
رؤية المفسرين في كتب التفسير المختلفة: التوازن بين التسيير والتخيير
يُجمع غالبية المفسرين على أن قضية القضاء والقدر ليست إجبارًا مطلقًا على الإنسان، وليست تفويضًا مطلقًا له، بل هي توازن دقيق بين الأمرين.
أهل السنة والجماعة: يرون أن للإنسان إرادة واختيارًا في أفعاله التي يُحاسب عليها، وهو مسؤول عنها. وأن الله تعالى علم أزلاً ما سيفعله العبد باختياره، وهذا العلم الأزلي لا يُجبر العبد. فالله خلق الأسباب والمسببات، وخلق في الإنسان القدرة على التمييز والاختيار، ثم بيّن له طريق الخير والشر، وأمره بالامتثال ونهاه عن العصيان. فالقضاء والقدر هو علم الله السابق وكتابته، ومشيئته النافذة، وخلقه لكل شيء. ولكن هذا لا يسلب الإنسان قدرته على الاكتساب، أي الفعل بإرادته.
الإمام الطبري: في تفسيره "جامع البيان عن تأويل آي القرآن"، يوضح أن قدرة الإنسان على الاختيار هي حقيقة لا يمكن إنكارها، وأن التكاليف الشرعية مبنية على هذه القدرة. فكيف يُحاسب الله عباده على ما ليس لهم فيه اختيار؟ هذا ينافي العدل الإلهي.
الإمام البغوي: في "معالم التنزيل"، يُبرز أن الآيات التي تتحدث عن مشيئة الله وإذنه لا تعني سلب الإرادة من العبد، بل هي دليل على أن كل شيء في الكون يسير وفقًا لمشيئة الله الكلية، وأن إرادة العبد هي جزء من هذه المشيئة الكبرى.
مفهوم "الكسب" عند أهل السنة:
هذا المفهوم مهم جدًا في فهم القضاء والقدر. فالإنسان لا يخلق أفعاله، بل يكتسبها. أي أن الله هو الخالق لكل شيء، بما في ذلك فعل العبد، ولكن العبد هو الذي يقصد الفعل ويريده ويختاره، فيخلق الله له هذا الفعل نتيجة لاختياره وكسبه له. فالله خلق القدرة للفعل، والإرادة للاختيار، والفعل نفسه. والإنسان هو من يوظف هذه القدرة والإرادة.
لفهم أعمق، يمكن تقسيم القدر إلى مراتب أربع:
العلم: علم الله الأزلي بكل ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة، قبل خلق السماوات والأرض. هذا العلم لا يغير شيئًا في الواقع ولا يجبر أحدًا.
الكتابة: كتابة الله لهذا العلم في اللوح المحفوظ.
المشيئة: مشيئة الله النافذة التي لا يخرج عنها شيء في الوجود. كل ما يقع في الكون، من خير وشر، يقع بمشيئة الله. لكن مشيئة الله لا تعني الرضا عن الشر، بل تعني وقوعه بعلمه وقدرته.
الخلق: خلق الله لكل شيء، بما في ذلك أفعال العباد. فالله هو الخالق، والعباد هم المكتسبون لأفعالهم.
الشبهات التي تثار حول عدل الله وحكمته في قضية القضاء والقدر تنبع من سوء فهم هذه المراتب. فالله تعالى لا يُحاسب العبد على شيء أجبره عليه. إنما يُحاسبه على اختياره ونيته وقصده. عدل الله يتجلى في كونه أعطى الإنسان العقل والقدرة على التمييز، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان طريق الحق، ومنح الإنسان حرية الاختيار بين الخير والشر.
فالإنسان مخيّر في الأمور التي يُحاسب عليها، مثل الطاعة والمعصية، الإيمان والكفر. ومسيّر في الأمور التي لا قدرة له عليها، مثل ميلاده، رزقه، أجله، جنسه، ولون بشرته. هذه الأمور خارجة عن إرادته، وهي جزء من تدبير الله الكوني الذي لا يُسأل عنه.
سورة يونس، وغيرها من آيات القرآن الكريم، تقدم لنا فهمًا عميقًا للقضاء والقدر، يُبعدنا عن الوقوع في فخ الجبرية أو القدرية. فالإنسان ليس مجرد ريشة في مهب الريح، ولا هو سيد مطلق لأفعاله دون تدخل إلهي. بل هو كائن مُكرّم مُنح الإرادة والقدرة على الاختيار، وهو مسؤول عن اختياراته. وفي الوقت نفسه، كل ما يحدث في هذا الكون هو بعلم الله ومشيئته وقدرته. هذا الفهم يمنح المؤمن الطمأنينة والثقة في حكمة الله وعدله، ويدفعه إلى العمل والاجتهاد والسعي، مع التوكل على الله والإيمان بأن كل خير أو شر يصيبه هو بتقدير الله.
كيف ترى هذا التوازن بين التسيير والتخيير في حياتك اليومية؟ وهل يزيد فهمك له من إيمانك وثقتك بقدر الله؟ هل تعتقد أن الإيمان بالقضاء والقدر يزيد من شعور الإنسان بالمسؤولية، أم يجعله أكثر استسلامًا وتواكلًا؟
تعليقات
إرسال تعليق