"من له يعطى ويزاد": استراتيجية التنمية البشرية لتحويل الإمكانات إلى ازدهار

 






المثل القديم "من له يعطى ويزاد"، والذي ورد في سياق ديني، يحمل في طياته حكمة عميقة تتجاوز الأبعاد اللاهوتية لتلامس جوهر التنمية البشرية والنمو الشخصي والمالي. بعيداً عن تفسيراته الروحية، تتفق هذه العبارة مع مبادئ أساسية في علم النفس الإيجابي، إدارة الموارد، وريادة الأعمال. فهي تؤكد أن النجاح والازدهار يأتيان لأولئك الذين يستثمرون ما لديهم بالفعل، سواء كانت مواهب، قدرات، معرفة، أو حتى موارد مالية قليلة، ويعملون على تنميتها وتكثيرها. في المقابل، أولئك الذين يهملون أو يحتفظون بما لديهم دون استثمار، يخاطرون بفقدان حتى ما يملكون.

"من له يعطى ويزاد" هي جزء من مثل ذكره يسوع في إنجيل متى (٢٥: ٢٩).


يأتي هذا الجزء ضمن "مثل الوزنات" (أو مثل المواهب)، وهو أحد أمثال يسوع التي تهدف إلى تعليم دروس حول المسؤولية، استثمار المواهب، وأهمية العمل بما أُعطي للإنسان.


سياق المثل:


يروي المثل قصة رجل يسافر ويترك أمواله (وزنات) لعبيده. يعطي أحدهم خمس وزنات، وآخر وزنتين، وثالثًا وزنة واحدة، كل حسب طاقته.


العبد الذي أُعطي خمس وزنات تاجر بها وربح خمس وزنات أخرى.


العبد الذي أُعطي وزنتين تاجر بهما وربح وزنتين أخريين.


أما العبد الذي أُعطي وزنة واحدة فذهب وحفر في الأرض وأخفى مال سيده خوفًا من الخسارة.


عند عودة السيد، يحاسب عبيده. يثني على العبدين الأولين لمضاعفة أمواله، ويكافئهما بزيادة المسؤولية والمكافأة. أما العبد الثالث الذي أخفى وزنة واحدة ولم يستثمرها، فيوبخه السيد ويأخذ منه الوزنة ويعطيها للعبد الذي لديه عشر وزنات.


وفي هذا السياق، يقول السيد: "لأن كل من له يعطى ويزاد، وأما من ليس له فالذي عنده يؤخذ منه." (متى 25: 29).


المغزى من المثل وسياق العبارة:


المثل لا يتعلق بالمال فقط، بل بالمواهب، القدرات، الفرص، وحتى الوقت الذي يمنحه الله للإنسان. العبارة "من له يعطى ويزاد" تعني أن:


الذي يستخدم ويستثمر ما لديه، سواء كانت مواهب أو فرص أو موارد، سيشهد نموًا وزيادة في كل هذه الجوانب. هذا يعكس مبدأ التطوير المستمر والإنتاجية.


أما الذي يهمل ما لديه ويخفيه خوفًا أو كسلاً، فإنه سيفقد حتى تلك القدرات أو الفرص التي كانت لديه في البداية. هذا يشير إلى أن عدم الاستخدام يؤدي إلى الضمور والفقدان.


من منظور التنمية البشرية، "من له يعطى ويزاد" تعني أن:


استغلال القدرات ينميها: عندما تستخدم مهاراتك، معرفتك، أو مواهبك، فإنها لا تضعف، بل تزداد قوة وصقلاً. الممارسة تؤدي إلى الإتقان، والتطبيق يولد الخبرة.

الاستثمار يضاعف الموارد: سواء كان ذلك استثمار الوقت في التعلم، أو الجهد في مشروع، أو المال في فرصة، فإن هذه الاستثمارات الذكية هي ما يؤدي إلى عوائد أكبر ونمو.

عقلية الوفرة مقابل عقلية الندرة: الأفراد الذين يؤمنون بمبدأ "من له يعطى ويزاد" يتبنون **عقلية الوفرة**. فهم يرون الإمكانيات في كل شيء، ويسعون لاستغلالها وتنميتها. بينما أولئك الذين يخشون الخسارة أو النقصان يتمسكون بما لديهم خوفاً من فقدانه، فيفقدون بذلك فرص النمو.

قانون الجذب والعمل: هذا المبدأ لا يتحدث عن الجذب السلبي، بل عن الجذب الذي ينبع من الفعل والإنتاج. فعندما تُظهر للعالم أنك قادر على الإنتاج وإضافة القيمة، فإن المزيد من الفرص والموارد تتدفق إليك.



يتفق العديد من خبراء التنمية البشرية والمالية مع هذا المبدأ:


1.  "الشيء الوحيد الذي يقف بينك وبين حلمك هو القصة الكاذبة التي تستمر في إخبارها لنفسك عن سبب عدم قدرتك على تحقيقه." - جوردان بيلفورت

 هذا الاقتباس يعكس الجانب السلبي من المثل "حتى ما يظن أنه يملكه سيُنزع منه". فالأشخاص الذين لا يستغلون مواهبهم غالبًا ما يختبئون وراء أعذار أو معتقدات سلبية عن أنفسهم، مما يمنعهم من استثمار قدراتهم وتحويلها إلى واقع ملموس.


2.  "الاستثمار في المعرفة يدفع أفضل فائدة." - بنجامين فرانكلين

 يؤكد هذا الاقتباس على أن أهم رأس مال يمكن أن يستثمره الإنسان هو **المعرفة والمهارات**. فكلما زاد تعليمك وتطويرك لذاتك، زادت قدرتك على خلق الفرص وتحويل الموارد القليلة إلى ثروة. هذه هي الميزة الأساسية التي "تعطى وتزاد" بمرور الوقت.


3.  "أنا مؤمن كبير بالحظ، وأجد أنه كلما عملت بجد، زاد حظي." - توماس جيفرسون

هذا الاقتباس يربط بين "الزيادة" و"العمل الجاد". فالحظ ليس مجرد صدفة، بل هو غالبًا نتيجة للتحضير والعمل المستمر الذي يزيد من فرص ظهور "الحظ" الإيجابي. عندما تستغل ما لديك وتعمل بجد، فإنك تخلق بيئة مواتية لتدفق المزيد من الفرص.


4.  "الطريقة الوحيدة للقيام بعمل عظيم هي أن تحب ما تفعله." - ستيف جوبز

عندما تحب ما تفعله، فإنك تستثمر فيه شغفك وطاقتك بالكامل. هذا الشغف هو محفز داخلي يجعلك تستخدم كل قدراتك ومواردك المتاحة بفاعلية، وبالتالي تزداد فرصك في التميز والنجاح، وهو ما يتوافق مع مبدأ "من له يعطى ويزاد".



المبدأ لا يقتصر على المواهب المجردة، بل يمتد إلى كيفية إدارة الموارد المالية، حتى لو كانت ضئيلة. إليك طرق لتطبيق هذا المبدأ لتحويل رأس مال قليل إلى مبلغ كبير:


1.  الاستثمار في الذات (رأس المال البشري):

    الآلية: بدلاً من التركيز على قلة المال، استثمر في تطوير مهارة مطلوبة. تعلم البرمجة، التسويق الرقمي، التصميم الجرافيكي، الكتابة، أو أي مهارة يمكن تحويلها إلى خدمة.

    التطبيق: استخدم مبلغاً بسيطاً لشراء دورة تدريبية عبر الإنترنت، أو كتب متخصصة، أو حتى الاشتراك في منصات تعليمية. المعرفة المكتسبة هي ما سيسمح لك بتحويل وقتك وجهدك إلى أموال.

    المثال: استثمار 20 دولارًا في كتاب عن التسويق يمكن أن يساعدك في بدء عمل حر (فريلانس) في التسويق الرقمي الذي يدر عليك مئات أو آلاف الدولارات لاحقًا.


2.  بدء مشاريع صغيرة بأقل التكاليف (Lean Startups):

    الآلية: ابدأ بفكرة قابلة للتنفيذ بموارد محدودة جدًا. ركز على تقديم قيمة حقيقية لمجموعة صغيرة من العملاء أولاً، ثم استخدم الأرباح لإعادة الاستثمار والتوسع.

التطبيق: بيع منتجات يدوية بسيطة، تقديم خدمات محلية، إنشاء محتوى رقمي صغير، أو البدء بمتجر إلكتروني دروبشيبينغ لا يتطلب رأس مال كبير للمخزون.

المثال: البدء في بيع وجبات منزلية بسيطة من مطبخك، أو تقديم خدمات تنظيف، أو صيانة، أو ترجمة عبر الإنترنت باستخدام شبكة علاقاتك. الأرباح الأولى تمكنك من شراء أدوات أفضل أو توسيع قاعدة عملائك.


3.  بناء شبكة علاقات (رأس المال الاجتماعي):

   الآلية: استغل وقتك وجهدك في بناء علاقات قوية مع أشخاص في مجالك أو في مجالات تهمك. هذه العلاقات يمكن أن تفتح لك أبوابًا للفرص، الشراكات، أو المعرفة التي لا تُقدر بثمن.

   التطبيق: احضر فعاليات صناعية، شارك في مجتمعات الإنترنت المتخصصة، أو تواصل مع الخبراء. قد يؤدي لقاء واحد إلى فرصة عمل أو شراكة تغير مسار حياتك المهنية.



يرى الكثيرون أن تطبيق مبدأ "من له يعطى ويزاد" في التنمية البشرية هو مفتاح للنمو المستدام.


رأي المتفائلين: يؤكدون على أن هذا المبدأ يغرس الأمل ويدفع للعمل. فكل شخص يمتلك شيئاً يمكن البناء عليه، مهما كان بسيطاً. التركيز على ما تملكه، بدلاً من ما لا تملكه، هو نقطة البداية الحقيقية للنجاح.

رأي الواقعيين: يقرون بأهمية المبدأ، لكنهم يشددون على أن الزيادة لا تأتي بالضرورة بسهولة أو سرعة. إنها تتطلب صبرًا، اجتهادًا، ذكاءً، وقدرة على التكيف. كما أنها قد تتطلب أحيانًا بعض المخاطرة المحسوبة.

رأي المحذرين: يحذرون من التفسير السطحي للمبدأ الذي قد يؤدي إلى الاعتقاد بأن "الحظ" وحده يكفي. بل يجب أن يكون هناك فعل حقيقي واستغلال واعٍ للموارد والفرص. الفشل في استغلال الموارد قد يؤدي إلى فقدانها، تمامًا كما أن عدم استخدام العضلة يؤدي إلى ضمورها.



مبدأ "من له يعطى ويزاد" هو دعوة قوية للجميع، بغض النظر عن نقطة بدايتهم، لاستغلال ما لديهم من مواهب، موارد، وإمكانيات. إنه ليس وعداً بالثراء السريع، بل هو قانون كوني يؤكد أن العطاء يأتي من الأخذ (الاستفادة) والنمو يأتي من الاستثمار (الفعل). بتطبيق هذا المبدأ، من خلال التركيز على تنمية الذات، بدء المشاريع الصغيرة بذكاء، استغلال قوة الفائدة المركبة، وبناء العلاقات، يمكن لأي شخص أن يبدأ رحلة تحويل أقل رأس مال أو أبسط إمكانية إلى ازدهار كبير.



ما هي أول خطوة عملية يمكنك اتخاذها اليوم لاستغلال "ما لديك" وتحويله إلى "ما ستزداد به"؟

تعليقات