الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي"

 




الحديث القدسي الشريف: "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" (رواه البخاري ومسلم).


هذا الحديث العظيم من الأحاديث القدسية الجليلة التي تفتح أبواب الرجاء والأمل في قلوب المؤمنين، وتُظهر عظمة الله تعالى، وواسع كرمه، وعميم فضله على عباده. إنه حديث يرسخ معاني القرب الإلهي والاستجابة لمبادرة العبد، ويُبنى على ركنين أساسيين: حسن الظن بالله وذكر الله تعالى.





لم يرد لهذا الحديث القدسي سبب ورود معين أو قصة خاصة تتعلق بظرف أو حادثة محددة، على غرار بعض الأحاديث النبوية التي جاءت ردًا على أسئلة أو وقائع. الأحاديث القدسية غالبًا ما تكون وحيًا إلهيًا مباشرًا يُبلغه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، لتثبيت قواعد الإيمان والأخلاق والمعاملات.


إن هذا الحديث جاء ليُعلم الأمة جمعاء مبدأً عظيمًا في العلاقة بين العبد وربه: أن الله سبحانه وتعالى يتعامل مع عبده وفقًا لظنه به، وأن ذكره تعالى والتقرب إليه يُقابل بعطاء أكبر وفضل أوسع. هو تأكيد على أن الخير كله في يد الله، وأن من ظن بالله خيرًا وجده، ومن قصده وجده قريبًا مجيبًا.



1. الإمام الشعراوي (رحمه الله):


ركز الإمام محمد متولي الشعراوي في تفسيره لهذا الحديث على العلاقة الوثيقة بين "ظن العبد" و"معاملة الرب". كان الشعراوي يرى أن ظن العبد بربه هو انعكاس لمعرفة العبد بربه. فمن عرف الله حق المعرفة بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، من كرم وجود ورحمة ومغفرة وقدرة، لا يمكن أن يظن به إلا خيرًا. ويقول الشعراوي: "إن الله سبحانه وتعالى لا يُخيب ظن عبدٍ أحسن الظن به، لأنه وعد بذلك".


وقد شرح الشعراوي كل جزء من الحديث، ففي قوله: "أنا عند ظن عبدي بي"، يوضح أن الله لا يُحاسب العبد على مجرد الظن، بل على ما يتجه إليه القلب. فإذا ظن العبد أن الله سيغفر له رغم ذنوبه، فهذا ظن مبني على سعة رحمة الله، والله سيعامله بما ظن. أما إذا ظن أن الله لن يغفر له لكثرة ذنوبه، فهذا يأس من رحمة الله، وهو سوء ظن، وقد لا يجد الغفران الذي تمناه لو أحسن الظن. إن الشعراوي يدعو إلى تربية النفس على حسن الظن، وأن يكون العبد على يقين تام بأن الله لا يضيع أجر المحسنين، وأنه سيجازي العبد بما يليق بكرمه وعظمته إذا سعى العبد إليه.


وعن قوله: "وأنا معه إذا ذكرني"، يُشير الشعراوي إلى أن معية الله هنا هي معية خاصة بالحفظ والنصر والتوفيق والهداية، وليست معية ذاتية. فالله معنا بعلمه وقدرته ورحمته. والذكر ليس مجرد ترديد للكلمات، بل هو استحضار لعظمة الله في القلب، وامتثال لأوامره، واجتناب لنواهيه.


2. الإمام النووي (رحمه الله) في شرح صحيح مسلم:


يركز الإمام النووي على أن المراد بحسن الظن بالله هو ظن المغفرة عند التوبة، وظن الإجابة عند الدعاء، وظن القبول عند العمل الصالح. ويعلق على قوله "أنا عند ظن عبدي بي" بأنه ينبغي للعبد أن يجتهد في تحصيل أسباب حسن الظن، وهي الطاعة والاجتهاد في العبادة، ثم يثق أن الله سيقبل عمله ويغفر ذنبه. ويُحذر من الظن السيء بالله، كاليأس من رحمته، أو الاعتقاد بأنه سيعذب العبد رغم طاعته.


وفيما يتعلق بالذكر، يوضح النووي أن "فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" يعني أن الله يعامله معاملة خاصة، وإشارة إلى قربه الخاص من العبد، ورفع درجته. و"وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" يفسرها بأن الله تعالى يثني على العبد في الملأ الأعلى (عند الملائكة)، وهذا شرف عظيم ومكانة رفيعة.


3. الإمام ابن القيم الجوزية (رحمه الله):


يُعد ابن القيم من أبرز من كتبوا عن حسن الظن بالله في كتبه، مثل "مدارج السالكين" و "الجواب الكافي". يربط ابن القيم بين حسن الظن بالله و التوكل الصادق عليه. يرى أن حسن الظن لا يعني مجرد الأمل الكاذب مع الإقامة على المعاصي، بل هو حسن ظن يدفعه إلى الطاعة ويمنعه من المعصية. فمن أحسن الظن بالله وجد همة في طاعته، ومن أساء الظن به تكاسل وتهاون.


يقول ابن القيم: "حسن الظن إنما يكون مع الإحسان، فإن المحسن حسن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه ولا يُخلف ظنه. وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات، فإن وحشة المعاصي تمنعه من حسن الظن بربه."


وفي جزء التقرب، يرى ابن القيم أن الحديث يوضح مبدأ المعاملة بالمثل، ولكن مع تضاعف فضل الله وكرمه. فكلما ازداد العبد قربًا وطاعة، ازداد الله منه قربًا وعطاءً. وهذا يُظهر أن الطريق إلى الله مفتوح دائمًا، وأن المبادرة من العبد تُقابل باستجابة إلهية أعظم.



يتناغم هذا الحديث القدسي مع العديد من الآيات القرآنية التي تؤكد على سعة رحمة الله، وقربه من عباده، واستجابته لمن دعاه وأحسن الظن به.


1.  قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة: 186).

    التفسير: هذه الآية تؤكد على قرب الله تعالى من عباده، وأنه لا حاجة لوسيط بين العبد وربه في الدعاء. فمجرد سؤال العبد لله هو دليل على قربه. وقوله: "أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ" يُشابه معنى "أنا عند ظن عبدي بي" في سياق الاستجابة والقبول، ويحث على الإيمان بالله والاستجابة لأمره كشرط لتحقيق الرشد.


2.  قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (الأنفال: 33).

    التفسير: تشير هذه الآية إلى سببين لرفع العذاب: وجود النبي صلى الله عليه وسلم، والاستغفار. الاستغفار هنا يعكس حسن الظن بالله في المغفرة، وأن العبد إذا لجأ إليه طالبًا المغفرة، فإن الله يستجيب له ويصرف عنه العذاب. هذا يرسخ فكرة أن التوجه إلى الله والتوبة الصادقة تُقابل برحمة ومغفرة منه سبحانه.


3.  قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} (البقرة: 152).

    التفسير: هذه الآية تتطابق تمامًا مع جزء "فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم". إنها وعد مباشر من الله تعالى بأن من يذكره يذكره الله. وهذا الذكر الإلهي للعبد هو من أعظم نعم الله وأجلّ كراماته. إنه يكفي العبد شرفًا وفخرًا أن يذكره رب العالمين.


4.  قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 102).

    التفسير: وإن لم تكن هذه الآية تتحدث مباشرة عن الظن أو الذكر، إلا أنها تتضمن معنى الاستقامة على الطاعة وحسن الخاتمة. فمن اتقى الله حق تقاته وسار على منهاجه، فإنه يحسن الظن بربه أن يثبته على الحق ويميتة على الإسلام، والله يستجيب لهذا الظن الصادق الذي اقترن بالعمل.



إن حديث "أنا عند ظن عبدي بي" هو دعوة إلهية مفتوحة لكل مؤمن ليعيد تقييم علاقته بربه. إنه يرسخ حقيقة أن الله تعالى أقرب إلينا مما نتصور، وأرحم بنا من أمهاتنا. يدعونا إلى:


1.  ترسيخ حسن الظن بالله: بأن نوقن أنه سبحانه وتعالى كريم، غفور، رحيم، قادر على كل شيء، وأنه لن يُخيب أملنا إذا دعوناه بصدق وتوجهنا إليه بقلوب خاشعة. هذا الظن يدفعنا إلى العمل الصالح والتوبة من الذنوب، لأنه ليس ظنًا مجردًا عن العمل.

2.  الإكثار من ذكر الله: بجميع أنواعه؛ من تسبيح، وتهليل، وتحميد، وتكبير، وقراءة قرآن، ودعاء، وصلاة. فذكر الله هو غذاء الروح، وبه تحيا القلوب وتطمئن النفوس، وهو بوابة لمعية الله الخاصة.

3.  المبادرة بالتقرب إلى الله: فالحديث يوضح أن كل خطوة نخطوها نحو الله، يُقابلها خطوات مضاعفة منه سبحانه نحو العبد. هذا يشجعنا على عدم اليأس أو التكاسل، بل يدفعنا إلى المزيد من الطاعة والاجتهاد.


هذا الحديث هو منارات تضيء دروب المؤمنين نحو تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة، لأنه يزرع الأمل ويقوي العزيمة، ويؤكد على أن رحمة الله واسعة وعطائه جزيل، وأن العلاقة مع الخالق مبنية على الحب والرجاء والقرب.



في ضوء فهمك لهذا الحديث القدسي العظيم، كيف ترى أن حسن ظنك بالله يمكن أن يؤثر بشكل ملموس على قراراتك اليومية وتعاملك مع التحديات في حياتك، وما هي الخطوة العملية الأولى التي يمكنك اتخاذها لتعزيز هذا الظن؟

تعليقات