"وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ": آية وعبرة من سورة الحج








تُعَدّ الآية الحادية عشرة من سورة الحج: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ" من الآيات القرآنية العظيمة التي تصف حالة نفسية وسلوكية بالغة الأهمية في علاقة الإنسان بربه. إنها آية تُبين جوهر الثبات في الإيمان، وتُحذر من عبادة المنافع الدنيوية التي تتهاوى عند أول اختبار أو شدة.


لفهم عميق للآية، نستعرض تفسيرات كبار المفسرين:

1. تفسير الإمام الشعراوي (رحمه الله)

يُعرف الإمام الشعراوي بأسلوبه البلاغي العميق وقدرته على استخلاص الدلالات اللغوية الدقيقة. عند تفسيره لهذه الآية، يُشير الشعراوي إلى أن "على حرف" تعني على طرف، على شفا، كمن يقف على حافة جبل. فهو لم يتمكن الإيمان من قلبه ولم يتغلغل فيه. هو يعبد الله وهو في حالة تردد وعدم استقرار، وليس في عمق الإيمان.

يُصور الشعراوي هذا النوع من الناس على أنه يعبد الله بشروط، أو بصفقة. فإذا جاءه الخير والرخاء واليسر، اطمأن قلبه لله وشعر بالرضا، لأنه رأى ثمرة عبادته مادية وملموسة في حياته. أما إذا أصابته "فتنة"، والمقصود هنا ليس فقط الابتلاءات العظيمة، بل كل ما يُصيب الإنسان من ضيق، أو فقر، أو مرض، أو فقدان، أو حتى تأخير في الرزق، فإنه "انقلب على وجهه". هذه العبارة تُصور حالة الارتداد والنكوص عن الإيمان. كمن كان يسير إلى الأمام وفجأة تدحرج إلى الخلف، أو كمن يسقط على وجهه عاجزًا عن المواصلة.

الخسارة هنا مزدوجة: "خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ". ففي الدنيا، هو يخسر راحة البال، وطمأنينة القلب، والثقة في تدبير الله، ويُصبح عبدًا للأحداث والمصالح. وفي الآخرة، يخسر رضوان الله وجنته، لأنه لم يثبت على دينه عند المحك. يُلخص الشعراوي هذا بأنه "الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ"، أي الواضح والجلي الذي لا خفاء فيه.

2. تفسير الإمام ابن كثير (رحمه الله)

يُعرف ابن كثير بمنهجه الذي يعتمد على تفسير القرآن بالقرآن وبالسنة النبوية، بالإضافة إلى أقوال الصحابة والتابعين. يُوضح ابن كثير أن قوله تعالى: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ" يعني: على شك وطرف، أي: لم يدخل في الإيمان بكليته، بل هو متردد بين هذا وهذا، كما هو حال المنافقين أو ضعاف الإيمان.

ويُورد ابن كثير بعض الأقوال في سبب نزول هذه الآية، بأنها نزلت في بعض الأعراب الذين كانوا يُسلمون، فإذا أصابهم خير كثرة أموال ومواشي وأولاد، قالوا: هذا دين مبارك. وإذا أصابتهم شدة وجفاف وقحط، قالوا: هذا دين شؤم، فيرتدوا عن الإسلام.

يُركز ابن كثير على أن هذا النمط من الناس يُجعل علاقته بالله مبنية على العطاء وليس الإيمان الصادق. فإذا أعطاه الله في الدنيا، حمد الله وعبده، وإذا حرمه أو ابتلاه، تذمر وشك في دينه. يُبرز ابن كثير أن هذا يُنافي حقيقة الإيمان الذي يجب أن يكون ثابتًا في السراء والضراء.

3. تفسير الإمام القرطبي (رحمه الله)

يُعرف القرطبي بتفسيره الجامع لأحكام القرآن، الذي يستعرض فيه الجوانب اللغوية والفقهية والأحكام المستنبطة من الآيات. يُبين القرطبي أن معنى "على حرف" أي على شرف، وهو كناية عن عدم التمكن والثبات. يُشبه ذلك برجل على جبل واقف على حافة، إن وجد مكانًا جيدًا استقر، وإن واجه صعوبة تراجع.

يُضيف القرطبي أن المقصود بـ "اطْمَأَنَّ بِهِ" أي رضي بما نال من خير وقرّت عينه. أما "وإن أصابته فتنة" فيُفسرها بأنها محنة أو بلاء أو اختبار، سواء كان في النفس أو المال أو الولد. ويُشدد على أن **"انقلب على وجهه"** تعني ارتد عن دينه، وتغيرت حاله عن الإيمان إلى الكفر أو النفاق.

يُفصل القرطبي في دلالة "خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ"، فيُشير إلى أن خسارته في الدنيا هي ما فاته من ثواب الإيمان والعمل الصالح، وما يُصيبه من قلق واضطراب نفسي لتعلقه بالدنيا وعدم رضاه بقضاء الله. وخسارته في الآخرة هي خلوده في النار إن مات على ذلك، وحرمانه من رضوان الله.

---

لتوضيح معنى الآية، يمكن أن نتخيل القصة التالية:

قصة عيسى والمطر:

في قرية صغيرة، كان هناك رجل اسمه عيسى. كان عيسى يُعرف بصلاته المتقطعة، وأحياناً يُرى في المسجد، وأحياناً لا يُرى. كان يُردد دائمًا: "يا رب، ارزقني المال والراحة، وسأكون من أعبد خلقك". كان يؤمن أن الدين سيُجلب له الثراء السريع والراحة المطلقة.

في إحدى السنوات، كانت القرية تُعاني من جفاف شديد. توقفت الأمطار، وجفت الآبار، وبدأت المحاصيل تموت. كان الناس يتضرعون إلى الله ويُكثرون من الدعاء والاستغفار، ويزيدون من صدقاتهم. أما عيسى، فبدأ يتذمر.

في البداية، كان عيسى يُشارك في صلاة الاستسقاء، ويُبدي بعض الصبر. ولكن مع استمرار الجفاف وتفاقم الأزمة، بدأت تجارته تتأثر، وقلّ رزقه. بدأ عيسى يُفكر: "أين الخير الذي وعدنا به الله؟ أين الاستجابة لدعائنا؟".

تغير سلوك عيسى تدريجيًا. بدأ يُقلل من صلواته، ثم توقف عن الذهاب للمسجد. صار يُشكو حاله ويُلقي باللوم على الدين نفسه. قال لأصحابه: "ما فائدة هذا الدين إذا لم يجلب لنا الرزق والمطر؟" لقد انقلب على وجهه، فبدلًا من الثبات والصبر واليقين بأن الله يبتلي ليختبر ويُطهر، غضب وتذمر وشك في الإيمان.

بعد فترة، هطلت الأمطار بغزارة، وعادت الحياة إلى القرية. ولكن عيسى كان قد خسر الكثير. خسر راحة البال التي يُمكن أن يجدها في الرضا بقضاء الله، وخسر إيمان الناس به، والأهم أنه خسر فرصة عظيمة لتقوية علاقته بربه والظفر بالثواب العظيم عند الصبر على البلاء. لقد خسر دنياه (راحة باله وسلامه النفسي) وآخرته (بفقدان ثواب الصبر والإيمان) بسبب عبادته لله على حرف.


الآية لا تقتصر على المنافقين أو ضعاف الإيمان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي تُشخص حالة إنسانية متكررة عبر العصور.

شرح معنى الآية في سياق معاصر:

"يعبد الله على حرف": تعني أن علاقة الشخص بالله قائمة على **الانتهازية والمصلحة الشخصية**. هو يُصلي، يُزكي، أو يقوم ببعض العبادات، ليس إيماناً راسخاً، بل لأنه يتوقع مقابلًا دنيويًا سريعًا.
        شخص يُكثر من الدعاء والصلاة فقط عندما يكون في محنة مالية أو صحية، فإذا زالت المحنة عاد إلى غفلته وقلّ اهتمامه بالعبادة.
         تاجر يتظاهر بالالتزام الديني ويُظهر الورع ليزيد من ثقة الناس به وكسب المزيد من الزبائن، فإذا واجه أزمة مالية أو رأى أن دينه يُعيقه عن تحقيق مكاسب غير مشروعة، تخلى عن مظاهره الدينية.
         شاب يبدأ في الالتزام الديني عندما يرى أن ذلك يُحسن صورته الاجتماعية أو يُقربه من فتاة متدينة، فإذا لم يحقق مراده أو واجه صعوبات، تراجع عن التزامه.

"فإن أصابه خير اطمأن به": عندما تأتي الحياة بما يُحبه هذا الشخص من مال، صحة، نجاح، شهرة، زواج، فإنه يُظهر الرضا والاطمئنان، ويُرجع الفضل لله، ويُمكن أن يزيد من عبادته بشكل مؤقت. يُصبح إيمانه "مُعلقًا" بالنعمة.

"وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه": إذا ما واجه هذا الشخص أي ابتلاء، محنة، خسارة، مرض، فقر، إخفاق في عمل، أو حتى تأخير في تحقيق أمنية، فإنه ينهار نفسيًا. يُصبح مُتذمرًا، شاكًا، وقد يصل به الأمر إلى التشكيك في وجود الله، أو عدله، أو حكمته. يتخلى عن عبادته، وقد يترك الدين كليًا، أو يُصبح مُتشائمًا وفاقدًا للأمل. يُلقي اللوم على الله أو على الدين، بدلًا من أن يرى الابتلاء اختبارًا أو تطهيرًا أو رفعة درجات.

"خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين":
   
 خسارة الدنيا:
القلق والاضطراب النفسي: لا يجد راحة البال، فقلبه مُعلق بالنتائج المادية فقط.
فقدان السكينة: لا يُمكنه الاستمتاع بالرزق الذي بين يديه، فدائمًا ما ينظر إلى ما فقده أو ما لم يحصل عليه.
ضعف العلاقات الاجتماعية: قد يلوم الآخرين أو يُصبح مُتذمرًا، مما ينفر الناس منه.
عدم الرضا: يُصبح دائم السخط وغير راضٍ عن حياته مهما نال منها.
   
 خسارة الآخرة:
 فقدان ثواب الصبر على البلاء.
 فقدان الأجر العظيم للإيمان الثابت.
 قد يصل إلى الكفر أو النفاق، مما يؤدي إلى عذاب الآخرة.
 يُحرم من الجنة ورضوان الله.



الآية تحمل في طياتها دروسًا عظيمة لكل مسلم:

1.  أهمية الثبات واليقين في الإيمان: الإيمان الحقيقي لا يتزعزع بالظروف، بل هو راسخ وثابت في السراء والضراء. يجب أن تكون علاقتنا بالله قائمة على العبادة الخالصة واليقين المطلق بأنه المدبر الحكيم العليم، وليس على تحقيق المصالح الدنيوية.
2.  الرضا بقضاء الله وقدره: يجب أن نُسلم لأمر الله ونرضى بما قضاه وقدره، سواء كان خيرًا أو شرًا في ظاهر الأمر. فكل أمر المؤمن خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له.
3.  فهم حقيقة الابتلاء: الابتلاءات ليست بالضرورة عقوبة، بل هي جزء لا يتجزأ من سنن الحياة، وهي وسيلة لتمحيص الإيمان، ورفع الدرجات، وتكفير السيئات، وتقوية العلاقة بالله.
4. التحرر من عبودية الدنيا: عندما تُصبح عبادة الله مُرتبطة بالرزق والنجاح الدنيوي، فإننا نُصبح عبيدًا للدنيا لا لله. الإيمان الحقيقي يُحرر الإنسان من قلق الخوف على الرزق، ويسلمه لتدبير الله.
5.  الخسارة الحقيقية ليست في المال أو الصحة: الخسارة الأكبر هي في فقدان الإيمان والرضا والطمأنينة، وخسارة الآخرة.


 آيات أخرى توضح المعنى

سورة البقرة، الآية 155: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ". هذه الآية تُبين أن الابتلاء جزء من الحياة وأن الصبر هو المفتاح.
سورة العنكبوت، الآية 2-3: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ  وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ". تُوضح أن الاختبار والفتنة هما شرط أساسي للتمييز بين الصادق في إيمانه والكاذب.
سورة يونس، الآية 12: "وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ". هذه الآية تُشابه في المعنى حالة من يعبد الله على حرف، حيث يُلجأ إلى الله وقت الشدة، وينسى فضله بعد زوالها.


تُقدم لنا الآية الكريمة من سورة الحج درسًا عميقًا في طبيعة الإيمان الحقيقي. إنها تُنبهنا إلى خطورة عبادة المنافع والتعلق بالدنيا، وتُؤكد على أن الإيمان الصادق لا يتأثر بتقلبات الحياة، بل يزداد رسوخًا مع كل اختبار. إن فهمنا لهذه الآية وتطبيقها في حياتنا يعني أن نُسلم قلوبنا لله تسليمًا كاملاً، وأن نُثبت على طاعته في السراء والضراء، وأن نُدرك أن كل ما يُصيبنا هو من تدبير الله وحكمته، وأن الخسارة الحقيقية تكمن في فقدان هذه الثقة والصلة بالله.


برأيك، ما هي أبرز العلامات أو السلوكيات التي تُشير إلى أن الشخص يعبد الله "على حرف" في سياق حياتنا اليومية، وكيف يُمكننا مساعدة أنفسنا والآخرين على تجاوز هذه الحالة إلى إيمان أعمق وأكثر رسوخًا؟

تعليقات