الألم نتيجة الرفض الكامل للحب الإلهي

 





في التصور الإسلامي، يمثل الحب الإلهي جوهر الوجود ومصدر كل خير. الله تعالى هو الودود، المحب، الرحمن، الرحيم. وقد خلق الإنسان وجعل فطرته تميل إلى معرفة خالقه ومحبته. عندما يرفض الإنسان هذا الحب الإلهي، أو ينكره، أو يبتعد عنه بشكل كلي، فإن ذلك يؤدي بالضرورة إلى نوع من الألم الروحي، والنفسي، وربما الجسدي، يعبر عن حالة من الشقاق الداخلي والبعد عن الفطرة السليمة. هذا الألم ليس عقوبة انتقامية بقدر ما هو نتيجة طبيعية للانفصال عن مصدر السعادة الحقيقية.



القرآن الكريم يزخر بالآيات التي تشير إلى أن الابتعاد عن الله وحبه يؤدي إلى الشقاء والضنك، بينما القرب منه يجلب الطمأنينة والسعادة.


 أ. حالة الضنك والشقاء:

قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾ [طه: 124]

 "ذكر الله" هنا لا يقتصر على مجرد التلاوة أو التسبيح، بل يشمل الإقبال على الله، وطاعته، ومعرفة محبته، والاستجابة لأمره. والإعراض عنه يعني الابتعاد عن منهجه ورفض هدايته.

 هذه الآية توضح بوضوح أن نتيجة الإعراض عن الله هي "معيشة ضنكاً"، أي حياة ضيقة، مليئة بالهموم والغموم والقلق، حتى لو كان الإنسان يمتلك كل مقومات الرفاهية المادية. هذا الضنك ليس بالضرورة فقرًا ماديًا، بل هو فقر روحي ونفسي، وشعور بالفراغ وعدم الرضا. إنها معاناة من نوع خاص، لا يمكن أن تسدها المتع الزائلة، لأنها ناتجة عن انفصال عن مصدر السعادة الحقيقية.


 ب. ظلم النفس:

قال تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ﴾ [طه: 123-126]

 التتابع في هذه الآيات يوضح أن نسيان آيات الله، أي الإعراض عنها وعدم الأخذ بها، يؤدي إلى "العمى" في الآخرة، وهو عمى عن الحق والنور الذي كان متاحًا في الدنيا.

 هذا العمى في الآخرة هو نتيجة للعمى البصيري والقلبي في الدنيا. فالإنسان الذي يرفض الحب الإلهي وهدايته، يكون قد ظلم نفسه أولاً بحرمانها من النور والهدى. الألم هنا هو نتيجة لهذا الظلم الذاتي، فكأنه يختار أن يعيش في الظلام بينما النور متاح له.


 ج. الطمأنينة بالذكر مقابل القلق:

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]

 هذه الآية تؤكد أن الطمأنينة والسكون القلبي لا يتحقق إلا بذكر الله، أي بمعرفته، ومحبته، وطاعته، والاتصال به.

 إذا كانت الطمأنينة هي نتيجة الاتصال بالله ومحبته، فإن غياب هذا الاتصال، أو رفض الحب الإلهي، سيؤدي حتمًا إلى نقيضها، وهو القلق، والاضطراب، والتوتر. القلب الذي لا يجد طمأنينته في ذكر الله سيظل يبحث عنها في الماديات الزائلة أو في العلاقات البشرية الناقصة، ولن يجدها أبدًا بشكل كامل ومستقر، مما يولد ألمًا مستمرًا.




الأحاديث النبوية تؤكد المعاني القرآنية، وتوضح كيف أن البعد عن الله يؤدي إلى الشقاء، بينما القرب منه يجلب السعادة.


 أ. حلاوة الإيمان:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال**: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ." (متفق عليه)

 "حلاوة الإيمان" هي لذة روحية وسعادة قلبية لا تُضاهيها لذة مادية. وأول وأهم أركانها هو أن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد من أي شيء آخر.

 هذا الحديث يوضح أن الحب الحقيقي لله هو أساس السعادة الداخلية. عندما يكون الله هو المحبوب الأول والأعلى في قلب الإنسان، فإن هذا القلب يمتلئ بحلاوة خاصة وطمأنينة. وبالمقابل، فإن القلب الذي يرفض هذا الحب أو يقدم عليه حب الدنيا وملذاتها، سيحرم من هذه "الحلاوة" ويشعر بمرارة الفقد والفراغ، وهو ألم روحي عميق.


ب. عاقبة قسوة القلب:

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال**: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي." (رواه الترمذي)

  "قسوة القلب" هي حالة من الغلظة والجمود الروحي، لا يتأثر صاحبه بالآيات أو المواعظ، ولا يلين للحق.

 القلب القاسي هو قلب رفض الحب الإلهي، وأغلق أبوابه عن نور الهداية والرحمة. هذا القلب المنغلق يعيش في نوع من الألم المستمر، لأنه محروم من نور الحب الإلهي الذي يغذيه ويلينه. وكلما زادت القسوة، زاد البعد عن الله، وبالتالي زاد الشعور بالضياع والألم.



تواترت آراء العلماء والمفكرين الإسلاميين على مر العصور لتؤكد هذه العلاقة بين الحب الإلهي والألم.


 أ. ابن القيم الجوزية:

يعتبر ابن القيم من أبرز من كتب عن أمراض القلوب وعلاجها.

 يرى ابن القيم أن كل ألم يعانيه الإنسان، سواء كان روحيًا أو نفسيًا، يرجع في أصله إلى البعد عن الله. فالحب الإلهي هو بمثابة "غذاء الروح"، وبدونه تصاب الروح بمرض يؤدي إلى الألم. يقول في "مدارج السالكين": "إذا مرض القلب، لم ينفعه طعام، ولم يستلذ شرابًا، بل يضرّه. وهكذا القلب إذا مرض بحب الدنيا، لم ينفعه ذكر الله، ولم يجد له حلاوة."

 يؤكد ابن القيم أن الألم الذي يعانيه الإنسان بسبب البراجماتية أو المادية أو الانغماس في الدنيا، هو نتيجة مباشرة لمرض القلب بالبعد عن الله. فالقلب الذي يرفض الحب الإلهي، يصبح غير قادر على تذوق حلاوة الإيمان، فيظل يعاني من جوع روحي لا تشبعه أي متعة مادية.


 ب. الإمام الغزالي:

قدم الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين" تحليلاً عميقًا لأمراض القلوب وعلاجها، وربط السعادة بالطاعة والحب الإلهي.

 يرى الغزالي أن الشقاء الحقيقي يكمن في الحجاب بين العبد وربه. فكلما ازداد الحجاب، ازداد الألم، والعكس صحيح. وأن السعادة لا تكمن في كثرة المال أو الجاه، بل في صفاء القلب وتذوق الأنس بالله.

 يوضح الغزالي أن الحجاب الذي يحجب القلب عن رؤية نور الله وحبه هو نتيجة المعاصي والغفلة ورفض الحق. هذا الحجاب يخلق ألمًا داخليًا، لأنه يمنع القلب من الوصول إلى مصدر سعادته الحقيقية. فالألم هنا هو إشارة إلى أن هناك خللاً في العلاقة بين العبد وربه، وأنه بحاجة إلى إصلاح هذا الخلل بالعودة إلى الله والحب والالتزام بمنهجه.


ج. سيد قطب:

قدم سيد قطب في "في ظلال القرآن" تفسيرات عميقة للآيات القرآنية، وربط السعادة والشقاء بمنهج الله.

 يرى سيد قطب أن الحياة الضنك ليست بالضرورة الفقر المادي، بل هي حالة من القلق الداخلي والاضطراب الروحي، والشعور بالضياع في غياب الهدف الأسمى، وهو عبادة الله.

 يشدد سيد قطب على أن الألم الناتج عن رفض الحب الإلهي هو ألم وجودي. الإنسان الذي يرفض محبة الله لا يجد معنى لحياته، ويشعر بالضياع في بحر الوجود، وهذا الضياع يولد ألمًا عميقًا لا يمكن إزالته إلا بالعودة إلى الفطرة والاتصال بالخالق.



يُظهر التحليل من خلال النصوص الشرعية وآراء العلماء أن الألم، في كثير من صوره، يمكن أن يكون نتيجة مباشرة لرفض أو إهمال الحب الإلهي. هذا الرفض لا يعني بالضرورة الكفر الصريح، بل يمكن أن يتخذ أشكالًا متعددة من الغفلة، أو تقديم حب الدنيا على حب الله، أو الانغماس في المعاصي التي تحجب القلب عن نور الإيمان. الألم هنا ليس عقابًا تعسفيًا، بل هو بمثابة إشارة إلهية، تنبيه للروح والقلب بأن هناك خللاً ما، وأن طريق السعادة والطمأنينة الحقيقية يكمن في العودة إلى الله، والانغماس في محبته، والالتزام بمنهجه. إنه دعوة للتأمل في أنفسنا وإعادة تقييم أولوياتنا، لندرك أن أغنى ما نملك هو علاقتنا بخالقنا، وأن الحرمان من هذه العلاقة هو أفقر ما يمكن أن نواجهه.



إذا كان الألم هو إشارة إلى البعد عن الحب الإلهي، فكيف يمكن للأفراد والمجتمعات اليوم في ظل سيطرة المادية واللهاث وراء الدنيا، أن يلتفتوا إلى هذا الألم الروحي، ويستمعوا إلى رسالته، ويعودوا إلى مصدر السعادة الحقيقية، وهو الحب الإلهي؟ وما هي الوسائل العملية التي يمكن أن تساعد في تعميق هذا الحب واستعادة الطمأنينة المفقودة؟

تعليقات