الهوية الشخصية، العقلانية، الأخلاق \ ديريك بارفيت

 




ديريك بارفيت (Derek Parfit) كان فيلسوفًا بريطانيًا يُعتبر من أهم فلاسفة الأخلاق والميتافيزيقا في أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. تميزت أعماله بالعمق الفكري والتحليل الدقيق، وتناول قضايا جوهرية تتعلق بالهوية الشخصية، العقلانية، الأخلاق، ومسؤولياتنا تجاه الأجيال القادمة. كانت فلسفته معقدة ومتشابكة، وغالبًا ما كانت تتطلب قراءة متأنية ومتكررة لفهمها بشكل كامل.



لدى بارفيت كتابان رئيسيان يمثلان حجر الزاوية في فكره الفلسفي:


Reasons and Persons (1984): يُعتبر هذا الكتاب عمله الأكثر شهرة وتأثيرًا، وقد أحدث ثورة في مجالات الهوية الشخصية والأخلاق العقلانية.

On What Matters (2011): وهو عمل ضخم مكون من ثلاثة مجلدات، يمثل تتويجًا لسنوات طويلة من البحث والتفكير في الميتاأخلاق (metaethics) والأخلاق المعيارية (normative ethics)، ويسعى فيه بارفيت إلى إظهار التقارب بين النظريات الأخلاقية الرئيسية.



 1. كتاب Reasons and Persons (الأسباب والأشخاص)


يُعد هذا الكتاب تحفة فلسفية قسمت إلى أربعة أجزاء رئيسية، كل جزء يتناول جانبًا مختلفًا من فلسفة بارفيت، لكنها جميعًا مترابطة وتدعم بعضها البعض.



الجزء الأول: النظريات المدمرة لذاتها (Self-Defeating Theories)

 في هذا الجزء، يستكشف بارفيت فكرة أن بعض النظريات العقلانية والأخلاقية يمكن أن تكون "مدمرة لذاتها" (self-defeating). يقدم تحليلًا نقديًا لثلاثة أنواع من النظريات:

        1.  نظرية المصلحة الذاتية (Self-Interest Theory - S): التي تقول إن العقلانية تتطلب منا دائمًا فعل ما هو في مصلحتنا الذاتية. يجادل بارفيت بأن هذه النظرية يمكن أن تكون "مدمرة لذاتها بشكل غير مباشر" (indirectly self-defeating)، بمعنى أنه إذا تبنى الجميع هذه النظرية بشكل صارم، فقد يؤدي ذلك إلى نتائج أسوأ لكل فرد مما لو اتبعوا مبادئ أخرى. على سبيل المثال، قد يكون من مصلحتك أن تكون شخصًا موثوقًا به، ولكن إذا كان هدفك الوحيد هو مصلحتك الذاتية، فقد لا تتمكن من بناء الثقة اللازمة.

        2.  الأخلاق القائمة على الحس المشترك (Common-Sense Morality - C): وهي النظرة التي تعطي أهمية خاصة لعلاقاتنا القريبة (الأصدقاء والعائلة). يجادل بارفيت بأن هذه الأخلاق يمكن أن تكون "مدمرة لذاتها جماعيًا" (collectively self-defeating)، حيث إذا اتبعها الجميع بشكل حصري، فقد لا نتمكن من تحقيق أفضل النتائج للجميع.

        3.  العواقبية (Consequentialism): وهي النظرية التي تقول إن الفعل الصحيح هو الذي يؤدي إلى أفضل النتائج الإجمالية. يرى بارفيت أنها يمكن أن تكون أيضًا مدمرة لذاتها بطرق معينة.

الأهمية: يسلط هذا الجزء الضوء على التحديات التي تواجه النظريات الأخلاقية التقليدية ويدعو إلى إعادة التفكير في كيفية بناء المبادئ الأخلاقية بحيث تكون مستقرة وفعالة.


الجزء الثاني: العقلانية والوقت (Rationality and Time)

 يركز هذا الجزء على العلاقة بين العقلانية والوقت، ويسعى إلى دحض نظرية المصلحة الذاتية بشكل أكبر. يجادل بارفيت بأن نظرية المصلحة الذاتية تفشل في إعطاء أهمية متساوية لمصلحة الشخص في الأوقات المختلفة من حياته. إذا كان اهتمامك الوحيد هو "مصلحتك الآن"، فكيف يمكنك أن تكون عقلانيًا بشأن مستقبلك البعيد؟ يقارن بارفيت هذا بكوننا نهتم بمصالحنا الشخصية أكثر من مصالح الآخرين، لكنه يسأل لماذا يجب أن نولي أهمية أكبر "للأنا الحالية" أكثر من "الأنا المستقبلية"؟

الأهمية: يمهد هذا الجزء الطريق لأفكاره حول الهوية الشخصية من خلال التشكيك في الأساس الزمني لمفهوم "الذات".


الجزء الثالث: الهوية الشخصية (Personal Identity)

 هذا هو الجزء الأكثر شهرة وإثارة للجدل في الكتاب. يجادل بارفيت بأن الهوية الشخصية (Personal Identity) ليست ما نعتقد أنها كذلك. يتحدى النظرة الشائعة التي تقول إن هناك "ذات" جوهرية أو مستمرة عبر الزمن. بدلاً من ذلك، يقترح أن ما يهم حقًا هو الترابط النفسي (Psychological Connectedness) والاستمرارية النفسية (Psychological Continuity).

الترابط النفسي: يشير إلى الروابط المباشرة بين الحالات النفسية المختلفة (مثل الذاكرة، النوايا، الشخصية). على سبيل المثال، ذاكرتي الآن مرتبطة بتجاربي بالأمس.

الاستمرارية النفسية: هي سلسلة من الترابطات النفسية على مدى فترة زمنية أطول.

    يستخدم بارفيت العديد من التجارب الفكرية (Thought Experiments) المثيرة للتفكير، مثل:

       عملية النقل الآني (Teletransporter): شخص يدخل آلة تنقله إلى المريخ عن طريق تفكيك جسده وإعادة تجميعه هناك بالضبط بنفس التكوين الذري. هل الشخص الذي يستيقظ على المريخ هو نفس الشخص الأصلي؟

        الانشطار (Fission): شخص ينشطر دماغه إلى نصفين ويزرع كل نصف في جسد جديد، مما يؤدي إلى وجود شخصين جديدين يمتلكان ذكريات وشخصية الشخص الأصلي. هل أي من هؤلاء الأشخاص هو الشخص الأصلي؟

     يخلص بارفيت إلى أن "الوجود المستمر للشخص" ليس هو ما يهم في الحياة، بل ما يهم هو الاستمرارية والترابط النفسي. هذه النتيجة لها آثار جذرية على كيفية فهمنا للمسؤولية الأخلاقية، والمصلحة الذاتية، وحتى مفهوم الخلود. إذا كانت الهوية الشخصية مجرد مسألة ترابط واستمرارية، فإن الخط الفاصل بين "أنا" و"الآخر" يصبح أقل وضوحًا.

    الأهمية: يغير هذا الجزء جذريًا كيفية تفكير الفلاسفة في الهوية الشخصية، ويقترح أن مفهوم "الذات" قد يكون أقل أهمية مما نعتقد، وأن ما يهمنا حقًا هو العلاقات النفسية التي تستمر عبر الزمن.


الجزء الرابع: التوليد والمسؤولية تجاه الأجيال القادمة (Future Generations and Impersonal Ethics)

يتعامل هذا الجزء مع مسائل السكان والتزاماتنا تجاه الأجيال القادمة. يقدم بارفيت "مشكلة اللا هوية" (Non-Identity Problem)، وهي تحدٍ أخلاقي يقول إن أفعالنا اليوم يمكن أن تؤثر على هوية الأشخاص الذين سيوجدون في المستقبل (على سبيل المثال، قرار إنجاب طفل الآن أو بعد عام). إذا كان اتخاذ قرار معين (مثل إنشاء سياسات بيئية معينة) يؤدي إلى وجود مجموعة مختلفة تمامًا من الأشخاص في المستقبل، فهل يمكننا القول إننا أضرنا بهم؟ إذا لم يكونوا قد وُجدوا لولا قرارنا، فهل تضرروا؟

    يستكشف بارفيت أيضًا ما يسميه "الاستنتاج البغيض" (Repugnant Conclusion) في الأخلاق السكانية، والذي يشير إلى أنه إذا كنا نهدف إلى تعظيم إجمالي السعادة، فقد نُجبر على تفضيل وجود عدد كبير جدًا من الأشخاص الذين يعيشون حياة بالكاد تستحق العيش، على وجود عدد أقل من الأشخاص يعيشون حياة سعيدة جدًا.

   الأهمية: يبرز هذا الجزء تعقيد التفكير في الأخلاق السكانية ويظهر كيف أن أفكار بارفيت حول الهوية الشخصية والعقلانية تمتد إلى قضايا عالمية ومستقبلية.




 2. كتاب On What Matters (حول ما يهم)


هذا العمل الضخم هو محاولة بارفيت الطموحة لتوحيد النظريات الأخلاقية الرئيسية: العواقبية، الديانتولوجيا الكانتية، والنظرية التعاقدية (Contractualism). يهدف إلى إظهار أن أفضل أشكال هذه النظريات "تتسلق نفس الجبل من جوانب مختلفة"، أي أنها تتقارب على نفس الاستنتاجات الأخلاقية الصحيحة.


أقسام الكتاب (بشكل عام، لأنه مقسم إلى عدة أجزاء وفصول داخل المجلدات الثلاثة):


المجلد الأول: الأسباب (Reasons) والمفاهيم المعيارية (Normative Concepts)

المحتوى: يبدأ بارفيت بتحليل المفاهيم الأساسية للأسباب والعقلانية. يميز بين الأسباب الذاتية (subjective reasons) التي تعتمد على رغباتنا ومعتقداتنا، والأسباب الموضوعية (objective reasons) التي لا تعتمد على ذلك. يجادل بقوة لصالح وجود أسباب موضوعية للفعل، مما يعني أن هناك حقائق أخلاقية مستقلة عن آرائنا أو رغباتنا. هذا يمثل دفاعًا عن **الواقعية الأخلاقية (Moral Realism).

   الأهمية: يضع هذا الجزء الأساس للمجادلات الأخلاقية اللاحقة، مؤكدًا على إمكانية وجود الحقيقة في المسائل الأخلاقية.


المجلد الثاني والثالث: تقارب النظريات الأخلاقية (The Convergence of Ethical Theories)

هذا هو جوهر "حول ما يهم". يجادل بارفيت بأن أفضل أشكال:

        1.  الكانتية (Kantianism): التي تركز على الواجبات والقواعد الأخلاقية التي يمكن تعميمها.

        2.  التعاقدية (Contractualism): التي تركز على المبادئ التي يمكن أن يتفق عليها الجميع بشكل معقول.

        3.  النتائجية (Consequentialism): التي تركز على النتائج الإجمالية الجيدة.

         تتقارب هذه النظريات على نفس مجموعة المبادئ الأخلاقية. على سبيل المثال، يجادل بأن أفضل شكل من الكانتية، الذي يركز على معاملة الناس كغايات في حد ذاتها وليس مجرد وسائل، يمكن أن يُفهم في النهاية على أنه يدعم المبادئ التي تؤدي إلى أفضل النتائج. كما يقترح "النظرية الثلاثية" (Triple Theory) التي تجمع بين أفضل عناصر هذه النظريات.

 الأهمية: محاولة بارفيت الجريئة لتوحيد هذه النظريات تمثل إسهامًا كبيرًا في الميتاأخلاق، وتوفر إطارًا جديدًا للتفكير في الأسس الموحدة للأخلاق.



 آراء الفلاسفة الآخرين وانتقادات موجهة لفلسفة بارفيت


كان لعمل بارفيت تأثير هائل وأثار نقاشات واسعة في الأوساط الفلسفية.


آراء إيجابية:


العمق والابتكار: يُشاد ببارفيت على نطاق واسع لعمق تفكيره، وأصالة حججه، وقدرته على طرح تجارب فكرية معقدة ومثيرة.

التأثير على مجالات متعددة: أثرت أفكاره بشكل كبير على فلسفة الهوية الشخصية، الأخلاق المعيارية، الميتاأخلاق، وفلسفة السكان.

الجدية الفلسفية: كان معروفًا بتفانيه الشديد في الفلسفة وسعيه الدؤوب للوصول إلى الحقيقة، حتى لو أدت به إلى استنتاجات غير بديهية.


 انتقادات:


غموض الهوية الشخصية: بينما يرى البعض أن تحليله للهوية الشخصية كان تحرريًا ومحررًا من المفاهيم القديمة، يرى آخرون أنه يقلل من شأن أهمية "الذات" الفردية بشكل مفرط، مما قد يؤدي إلى فقدان الإحساس بالمسؤولية الشخصية أو المعنى في الحياة.

الاستنتاجات البغيضة في أخلاقيات السكان: واجه "الاستنتاج البغيض" نقدًا واسعًا، حيث يجد العديد من الفلاسفة صعوبة في قبول أنه من الأفضل وجود عدد لا يحصى من الأشخاص الذين يعيشون حياة بالكاد تستحق العيش على وجود عدد أقل من الأشخاص السعداء للغاية.

تعقيد الحجج وصعوبة الفهم: أعمال بارفيت معقدة للغاية وتتطلب جهدًا كبيرًا للفهم، مما يجعلها أحيانًا صعبة المنال حتى على الفلاسفة المتخصصين.

توحيد النظريات الأخلاقية: على الرغم من طموح "حول ما يهم"، يجادل بعض النقاد بأن بارفيت لم ينجح تمامًا في إظهار التقارب التام بين النظريات الأخلاقية الرئيسية، وأن التناقضات الأساسية لا تزال قائمة.

الواقعية الأخلاقية: دفاعه عن الواقعية الأخلاقية في "حول ما يهم" كان موضوع نقاش حاد، حيث يفضل العديد من الفلاسفة المعاصرين أشكالًا من المعاداة للواقعية (anti-realism) أو البنائية (constructivism) في الأخلاق.




إذا كانت الهوية الشخصية، كما يقترح بارفيت، مجرد مسألة ترابط واستمرارية نفسية وليست جوهرًا ثابتًا، فما هي الآثار العملية لهذه النظرة على مفهومنا للمسؤولية الجنائية والعقاب؟ هل يظل من المنطقي معاقبة شخص على جريمة ارتكبها "أنا سابق" يختلف نفسيًا بشكل كبير عن "أنا الحالي"؟

تعليقات