كتاب اللاطمأنينة \ فرناندو بيسوا
"كتاب اللاطمأنينة" ليس مجرد كتاب، بل هو تجربة روحية وفكرية عميقة، وهو بالفعل من الأعمال التي تترك أثراً لا يُمحى. هو عمل فريد من نوعه للشاعر والكاتب البرتغالي الأسطوري فرناندو بيسوا. هذا الكتاب ليس رواية ذات حبكة، ولا مجموعة قصائد، ولا كتاباً فلسفياً بالمعنى التقليدي. إنه أقرب إلى سيرة ذاتية مجزأة لروح بشرية، مجموعة هائلة من الشذرات واليوميات والتأملات التي كتبها بيسوا على مدار أكثر من عشرين عاماً وتركها في صندوق خشبي ضخم عند وفاته.
لم يُنشر الكتاب في حياة بيسوا، بل تم تجميعه وترتيبه بواسطة محررين بعد وفاته، مما يجعله عملاً غير مكتمل أبدًا ومفتوحًا دائمًا على التأويل. إنه نتاج عقل عبقري شديد الحساسية، قضى حياته يحلل أدق خلجات النفس البشرية ويصف غربتها عن العالم وعن ذاتها.
المؤلف الخفي: فرناندو بيسوا وبرناردو سواريس
لفهم الكتاب، يجب أن نفهم فكرة "الأناوات الأخرى" (Heteronyms) التي ابتكرها بيسوا. لم يكن بيسوا يكتب باسمه فقط، بل خلق شخصيات أدبية متكاملة بأسماء وتواريخ ميلاد وأساليب كتابة وفلسفات مختلفة.
"كتاب اللاطمأنينة" يُنسب في معظمه إلى "شبه-أنا آخر" يُدعى برناردو سواريس، وهو محاسب مساعد في مكتب تجاري بمدينة لشبونة. هذه الشخصية العادية والمغمورة هي التي تسمح لبيسوا باستكشاف أعمق مشاعر العزلة والرتابة والتأملات الفلسفية التي تنشأ من حياة تبدو ظاهرياً بلا أحداث. سواريس هو عين بيسوا على العالم الداخلي، صوت روحه الهامسة التي تراقب الحياة من نافذة مكتبها ولا تشارك فيها إلا نادراً.
يغوص الكتاب في مجموعة من الأفكار الوجودية العميقة التي تجعله مرآة للقلق الإنساني الحديث:
الاغتراب والشعور بأنك متفرج: الفكرة الأكثر مركزية هي شعور الكاتب بأنه مجرد متفرج على الحياة، لا مشارك فيها. يرى العالم كفيلم أو مسرحية تدور أمامه، بينما هو حبيس وعيه الخاص.
عبء الوعي والتفكير المفرط: يعاني سواريس من فرط الوعي بذاته وبكل شيء حوله، مما يجعله عاجزاً عن الفعل. كل فكرة وكل شعور يتم تحليله وتشريحه حتى يفقد بساطته، ويتحول إلى عبء ثقيل.
شلل الإرادة واللامبالاة: نتيجة للتفكير المفرط، يصل الكاتب إلى حالة من الشلل التام في الإرادة. لا يرى جدوى في أي فعل، وتتساوى عنده كل الخيارات، مما يؤدي به إلى حالة من السكون واللامبالاة العميقة.
الحلم كواقع بديل: يهرب بيسوا/سواريس من رتابة الواقع وقسوته إلى عالم الأحلام والتخيلات. بالنسبة له، الحياة الداخلية هي الحياة الحقيقية الوحيدة، وما يحدث في الواقع ليس سوى ظلال باهتة.
شاعرية الرتابة والملل: يتمكن بيسوا من استخراج جمال حزين وشعرية فريدة من أكثر الأشياء رتابة: الشارع، المطر، أصوات المكتب، الوجوه المجهولة. إنه يحول الملل إلى فن.
الكتاب عبارة عن شظايا، فقرات قصيرة وطويلة، تأملات، ووصف للحالات النفسية. لا يوجد تسلسل زمني أو سردي. يمكنك فتح الكتاب من أي صفحة والبدء في القراءة. هذا الأسلوب المجزأ يعكس بدقة طبيعة الوعي الإنساني المتقطعة وغير الخطية. لغته شعرية للغاية، كثيفة بالصور والاستعارات، وتحول الأفكار الفلسفية المجردة إلى تجارب حسية ملموسة.
هذه بعض الاقتباسات التي تجسد روح الكتاب بعمق:
الاقتباس الأول: عن تعدد الذوات في داخلنا
"لم أكتشف هويتي قط. في كل لحظة، كنت أرى في نفسي شخصاً غريباً... لم أشعر بنفسي إلا عندما كنت أشعر بالآخرين في داخلي. روحي هي مسرح غامض، لا أعرف فيه الممثلين الذين يؤدون أدوارهم، ولا أعرف إن كانت هذه المسرحية موجودة حقاً، أم أنني أنا نفسي المسرح. كل شيء يبدو لي غريباً، منفصلاً. أنا مجرد خشبة مسرح تشعر بنفسها، وتدور عليها مشاهد مختلفة من حياة لم أعشها. أنا لست سوى المشهد الذي تمر عبره شخصيات لا أعرفها."
الاقتباس الثاني: عن الحياة كعبء من الإحساس
"أن تشعر بكل شيء بكل الطرق الممكنة، أن تمتلك كل الآراء، أن تكون صادقاً وأنت تناقض نفسك في كل دقيقة... أن تكون على استعداد للتخلي عن كل الأحلام من أجل أدنى إيماءة من الواقع، وفي نفس الوقت، التخلي عن الحياة كلها من أجل حلم واحد... إنها حالتي. أنا لا أريد أن أكون شيئاً، لقد ولدت لأكون لا أحد. عبئي الأكبر هو أنني مضطر لوجودي. الحياة بالنسبة للآخرين جوع وعطش، أما بالنسبة لي فهي غثيان."
الاقتباس الثالث: عن الحرية والعزلة
"الحرية هي إمكانية العزلة. تكون حراً إذا استطعت أن تبتعد عن الناس، دون أن تكون مجبراً على البحث عنهم من أجل المال أو من أجل العاطفة أو المجد أو الفضول، وهي أشياء لا يمكن العثور عليها في الصمت والعزلة. إذا كان من المستحيل عليك أن تعيش وحيداً، فأنت عبد بالولادة. يمكنك أن تكون سيداً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، أو إمبراطوراً، لكنك ستظل عبداً. مكانتك العالية، ثروتك، كلها ستكون مجرد قيود ذهبية. أنت لا تستطيع التخلي عنها، إذن أنت عبد لها."
الاقتباس الرابع: عن الواقع والفن
"الأدب هو الطريقة الأكثر إمتاعًا لتجاهل الحياة. إذا كان علي أن أعيش بالفعل، فإنني أختار أن أحلم بحياتي بدلاً من أن أعيشها. أن أحلم بها، حتى لو كان الحلم مؤلماً، أفضل من أن أعيشها بلا روح. الواقع يقتلني، أما الحلم فيمنحني حياة أخرى، حياة لا يراها أحد، ولا يفهمها أحد، وهي ملكي وحدي. في أحلامي، أنا ملك، أنا بطل، أنا كل ما لا أستطيع أن أكونه في هذا العالم البائس. الفن هو اعتراف بأن الحياة لا تكفي."
لماذا لا يزال الكتاب مهماً اليوم؟
"كتاب اللاطمأنينة" هو كتاب الأرواح القلقة، ورفيق المنعزلين والمفكرين بصمت. في عالم يزداد سرعة وضجيجاً ويطالبنا دائماً بالإنتاجية والظهور، يأتي صوت بيسوا ليمنح الشرعية للشعور بالضياع، والتعب، والرغبة في الانسحاب إلى الذات. إنه لا يقدم حلولاً، بل يقدم فهماً عميقاً ورفقة لا تقدر بثمن. يخبرنا أننا لسنا وحدنا في شعورنا بأننا غرباء في هذا العالم.
تعليقات
إرسال تعليق