تلك الرائحة التي لا تُنسى

 




"تلك الرائحة التي لا تُنسى"

أذكر تلك الأمسيات، حيث كانت الشمس تذوب ببطء خلف أفق المدينة، تاركةً وراءها خطوطًا من الذهب والياقوت. لم تكن مجرد غروب شمس، بل كانت إعلانًا عن بداية لحظات مقدسة. كان الهواء يمتزج برائحة الياسمين من شرفة الجيران، ورائحة الخبز الطازج الذي كانت أمي تخبزه في فرنها القديم. تلك الرائحة، التي لم أجد لها مثيلًا في أي مكان آخر، كانت كخيط غير مرئي يربطني بطفولتي.

كان أبي يجلس على كرسي خشبي متآكل في الحديقة، يقرأ جريدته بصمت، بينما كنت أنا أعدو حوله، أطارد فراشة صفراء تائهة. كانت الحديقة الصغيرة عالَمي الخاص، حيث كانت أوراق الشجر تحكي لي حكايات خيالية، وكانت الحجارة الملساء كنوزًا ثمينة. في تلك اللحظات، لم يكن هناك هم أو خوف، فقط شعور عميق بالسلام والأمان.

أتذكر كيف كان أبي يرفع رأسه عن الجريدة، وينظر إليّ بابتسامة دافئة، وكأنه يرى فيّ كل المستقبل الذي يحلم به. في عينيه، كانت هناك حكاية طويلة من الصبر والتعب، لكنها كانت تختبئ خلف بريق من الحب اللامشروط. اليوم، عندما أغمض عيني وأسترجع تلك المشاهد، لا أرى مجرد صورة، بل أستشعر الدفء الذي كان يغمرني، وأسمع صوت ضحكاتنا التي كانت تملأ الفراغ، وأشم تلك الرائحة التي لا يمكن أن أنساها أبدًا. رائحة الياسمين، ورائحة الخبز، ورائحة الأمان.


تعليقات