انهيار "معالم الحياة"

 




قد تتقوّض معالم الحياة، فأن نستيقظ وأن نركب القطار وأن نقضي أربع ساعات في المكتب أو في المصنع أو في الجامعة وأن نتغدّى، ثمّ أن نركب القطار مجددا وأن نقضي أربع ساعات من العمل أو الدراسة، وأن نتعشّى وأن ننام، ثم يوم الإثنين فالثلاثاء فالأربعاء فالخميس فالجمعة، وأخيرا السبت، كلها على الوتيرة ذاتها، وتستمر هذه الطريق بيُسر في غالب الأحيان، وذات يوم يطالعنا سؤال " لماذا "؟.  ألبير كامو \ أسطورة سيزيف


 انهيار الديكور

يُقدم هذا المقطع تشريحاً دقيقاً للحظة "السقوط". إنه لا يتحدث عن سقوط جسدي، بل عن انهيار "معالم الحياة" (الديكور المسرحي) التي نعيش خلفها. يبدأ النص بوصفٍ رتيب ومخيف في آن واحد لـ "الأنا" المُستلبة، الغارقة في الأفعال الميكانيكية اليومية. هذه ليست مجرد يوميات، بل هي صك اتهام ضد الحياة التي تُعاش "بيُسر" ظاهري، بينما هي في العمق خواء مُقنّع. إنها لوحة "ما قبل العبث"، حيث العجلة تدور، والجميع نيام على متنها، حتى لحظة الصحوة الفجائية.


إن القوة  في النص تكمن في قدرته على تجريد الحياة من ألوانها، تاركاً لنا الهيكل العظمي للعادة.



إلغاء الذات: لاحظ غياب أي فعل إبداعي أو شخصي. الأفعال كلها "وظيفية" (نستيقظ، نركب، نقضي، نتغدى). الإنسان هنا ليس "فاعلاً" بل "مفعول به" من قِبل النظام الذي وضعه. إنه ترس في آلة (المكتب، المصنع).


تسليع الزمن: الزمن لم يعد يُقاس بالتجارب، بل بـ "أربع ساعات" ثم "أربع ساعات". إنه زمن كمّي، مفرغ من الكيف.


الموت بالتقسيط: "الإثنين فالثلاثاء فالأربعاء..." هذا التتابع ليس مجرد تقويم، إنه نعي مستمر. كل يوم هو نسخة مكررة من الأمس وغداً. "الوتيرة ذاتها" هي الموت الحقيقي، لأنها تنفي التجدد والاختيار.


الجزء الثاني من المقطع هو الانفجار الحقيقي. إنه يكشف عن التناقض الصارخ بين السطح والعمق.


"وتستمر هذه الطريق بيُسر في غالب الأحيان، وذات يوم يطالعنا سؤال 'لماذا؟'"


"وتستمر هذه الطريق بيُسر": هذا هو التخدير. "اليُسر" هنا ليس راحة، بل هو "نوم الوعي". طالما أننا لا نفكر، فإن القطار سيستمر في المسير. هذا اليُسر هو الثمن الذي ندفعه مقابل التنازل عن إنسانيتنا (أي: عن حقنا في طرح الأسئلة).


"وذات يوم...": الفجائية. الوعي لا يأتي بالتدريج، إنه صدمة. "ذات يوم" هو يوم "غير عادي" يكسر رتابة الأيام الأخرى.


"'لماذا؟'": هذا السؤال البسيط هو "القنبلة". إنه السؤال الذي يُقوّض "معالم الحياة" التي بدأت بها الفقرة.


لماذا أستيقظ؟


لماذا أركب هذا القطار؟


لماذا أعمل 4 ساعات + 4 ساعات؟


لماذا الإثنين ثم الثلاثاء؟


لماذا أفعل كل هذا؟


بمجرد طرح هذا السؤال، لم يعد "اليُسر" ممكناً. لقد انكسر الإيقاع. هذا الـ "لماذا" هو بداية الوعي العبثي؛ أي إدراك الهوة بين أفعالنا الميكانيكية وبين غياب أي مبرر جوهري أو نهائي لهذه الأفعال.


هذا المقطع، على قصره، يفتح الباب لعدة قراءات حول حالتنا الوجودية:


رأي (نقد اجتماعي): المقطع هو هجاء مباشر لـ "الاغتراب" (Alienation) في المجتمع الصناعي والرأسمالي الحديث. الإنسان (العامل في المصنع، الموظف في المكتب، الطالب في الجامعة) تحول من "غاية" إلى "وسيلة" لإنتاج أو استهلاك. حياته مُصممة لخدمة النظام، لا لخدمة ذاته، والسؤال "لماذا؟" هو بداية التمرد على هذا الاغتراب.


رأي (وجودي): المقطع يصور اللحظة التي ينتقل فيها الإنسان من "الوجود في ذاته" (Being-in-itself) - كالحجر أو كمن يعيش على الطيار الآلي - إلى "الوجود لذاته" (Being-for-itself)، أي الوعي. هذه اللحظة، رغم أنها مؤلمة لأنها تكشف العبث، هي اللحظة الوحيدة التي نكون فيها "أحراراً" حقاً. قبل "لماذا؟" نحن عبيد للعادة، بعدها، نحن أحرار في مواجهة العدم.


رأي (نفسي): يمكن قراءة المقطع كأزمة منتصف العمر أو "صحوة الكينونة". "اليُسر" هو منطقة الراحة (Comfort Zone) التي نبنيها من الروتين لتجنب القلق الوجودي. لكن "اللاوعي" أو "الذات الحقيقية" تتمرد في النهاية، وتطرح السؤال "لماذا؟" كصرخة لطلب الإنقاذ، كدعوة لعيش حياة أصيلة (Authentic) بدلاً من هذه المسرحية المكررة.


 ما بعد الـ "لماذا؟"

إن عظمة هذا المقطع تكمن في أنه يتوقف تماماً عند اللحظة الحاسمة. إنه يصف بدقة متناهية كيف نعيش "قبل" الوعي، وكيف يظهر هذا الوعي "فجأة". لكنه يتركنا معلقين مع السؤال.


النص لا يقدم إجابة، لأن قيمة النص في السؤال نفسه. أن تعيش الروتين (القطار والمكتب والنوم) هو أن تكون "ميتاً" يعتقد أنه حي. أن تطرح السؤال "لماذا؟" هو أن تبدأ "الحياة" الحقيقية، حتى لو كانت هذه الحياة هي إدراك "العبث" (Absurdity) الكامن في هذا الروتين. الـ "لماذا؟" ليست نهاية الطريق، إنها بدايته الإجبارية.


بما أن المقطع يصف الروتين بأنه يستمر "بيُسر"، ويصف السؤال "لماذا؟" بأنه "يطالعنا" (كشيء مفاجئ يهدم هذا اليُسر)...


برأيك، هل الصحوة على العبث (سؤال "لماذا؟") نعمة أم نقمة؟ وهل "اليُسر" الذي يسبقها هو غفلة مريحة أم موت بطيء؟

تعليقات