"التكيف: لماذا يبدأ النجاح دائمًا بالفشل"

 





في عالم مهووس بقصص النجاح الخارقة والخطط العبقرية التي لا تشوبها شائبة، يطرح الاقتصادي والمؤلف تيم هارفورد (صاحب كتاب "الاقتصادي المتخفي") أطروحة صادمة ومحررة في الوقت ذاته: النجاح الحقيقي والمستدام لا يأتي من العبقرية الفردية أو التخطيط المركزي المحكم، بل هو نتيجة حتمية لعملية فوضوية من التجربة، والخطأ، والأهم من ذلك، الفشل.


كتاب "التكيف: لماذا يبدأ النجاح دائمًا بالفشل" هو ليس مجرد كتاب في إدارة الأعمال، بل هو رؤية فلسفية لكيفية عمل العالم المعقد. يجادل هارفورد بأننا نعاني من "عقدة الإله" (The God Complex) – وهو الاعتقاد الوهمي بأن الخبراء والقادة يمكنهم فهم نظام معقد (مثل الاقتصاد العالمي، أو التغير المناخي، أو حتى إدارة شركة كبرى) بشكل كامل، وبالتالي يمكنهم تصميم الحل الأمثل له من القمة إلى القاعدة.


يؤكد هارفورد أن هذا الوهم هو أصل أكبر كوارثنا. وبدلاً من ذلك، يقدم بديلاً: التكيف.


 التطور بدلاً من التصميم:

يستعير هارفورد جوهر فكرته من علم الأحياء التطوري: الكائنات الحية لا تصبح "مثالية" عن طريق خطة ذكية، بل تتكيف مع بيئتها عبر مليارات التجارب الفاشلة (الطفرات) وبقاء الأصلح (الانتقاء).


يطبق هارفورد هذا المنطق على كل شيء:


في الأعمال: الشركات التي تنجح ليست بالضرورة تلك التي لديها أفضل خطة أولية، بل تلك التي تجرب منتجات جديدة باستمرار (مثل جوجل)، وتقبل بأن 80% منها سيفشل، ولكنها تتعلم بسرعة وتستثمر في الـ 20% الناجحة.


في السياسة والحرب: يشرح كيف أن الخطط العسكرية الكبرى (مثل غزو العراق) تفشل عند أول احتكاك بالواقع المعقد، بينما النجاح يأتي من الجنود والضباط على الأرض الذين يتكيفون يومياً مع المواقف المتغيرة.


في الحياة الشخصية: النجاح ليس خطاً مستقيماً، بل هو سلسلة من المحاولات وتعديل المسار بناءً على ما لا ينجح.


ركائز التكيف الثلاث (مبادئ بالتشينسكي)

لتطبيق هذا التفكير، يتبنى هارفورد ثلاثة مبادئ أساسية (مستعارة من المهندس الروسي بيتر بالتشينسكي):


المبدأ الأول: جرب أشياء جديدة (التنويع) يجب على المؤسسات والأفراد تشجيع التجربة المستمرة وتوليد الأفكار الجديدة، حتى لو بدت غريبة أو محفوفة بالمخاطر. بدون "تنويع" في الأفكار، لا يمكن أن يحدث تطور.


المبدأ الثاني: اجعل الفشل "قابلاً للنجاة" (الفشل الآمن) هذه هي النقطة الأهم. لا يمكنك تعلم أي شيء إذا كانت التجربة الفاشلة الأولى تدمرك بالكامل. يجب أن تكون التجارب صغيرة الحجم ومنخفضة المخاطر، بحيث إذا فشلت (وهو ما سيحدث غالباً)، تكون الخسارة محتملة ويمكن التعلم منها للمحاولة التالية.


المبدأ الثالث: ابحث عن التغذية الراجعة وتعلم (الانتقاء) يجب أن تمتلك آلية واضحة وصادقة لمعرفة ما إذا كنت قد فشلت. العديد من المؤسسات (والأفراد) بارعون في إخفاء الفشل أو تبريره. بدون تغذية راجعة حقيقية، لا يمكن "لانتقاء" الأفكار الجيدة والتخلص من السيئة أن يحدث.



عن القبول النفسي للخطأ

"قبول التجربة والخطأ يعني قبول الخطأ. هذا يعني تقبل المشاكل بهدوء عندما لا ينجح قرار ما، سواء بسبب سوء الحظ أو سوء التقدير. وهذا شيء لا يبدو أن العقول البشرية قادرة على فعله دون صراع."


هنا يلمس هارفورد جوهر المشكلة الإنسانية. المشكلة ليست تقنية، بل نفسية. نحن نربط الفشل بهويتنا؛ "لقد فشلتُ" تتحول بسهولة إلى "أنا فاشل". يطالبنا هارفورد بفصل الذات عن النتيجة. الفشل ليس حكماً على قيمتك، بل هو مجرد "بيانات" (Data) تخبرك بأن هذه الطريقة المحددة لم تنجح. هذا الصراع النفسي هو أكبر عائق أمام التكيف، لأننا إذا لم نعترف بالفشل (بسبب الألم النفسي)، لا يمكننا أبداً أن نتعلم منه.


 عن وهم التخطيط المسبق

"لا توجد خطة تنجو من الاحتكاك الأول بالعدو. ما يهم هو مدى سرعة القائد في التكيف."


 هذا الاقتباس (المأخوذ أصلاً من الاستراتيجية العسكرية) هو هجوم مباشر على "عقدة الإله". إنه يقلب فهمنا التقليدي للقيادة. القائد العظيم ليس من يضع خطة مثالية لا تحتاج إلى تغيير، بل من يمتلك التواضع ليعرف أن خطته ستكون خاطئة حتماً عند تطبيقها، ويمتلك المرونة ليغيرها بسرعة. الفلسفة هنا هي أن الواقع أكثر تعقيداً من أي نموذج نصنعه له. لذلك، يجب أن تكون الأولوية للمرونة والاستجابة، وليس للالتزام الأعمى بالخطة الأصلية.


 عن طبيعة النجاح في الأنظمة المعقدة

"أرني أي نظام معقد ناجح، وسأريك نظامًا تطور من خلال التجربة والخطأ."


 هذه هي الأطروحة الكبرى للكتاب. هارفورد يجادل بأن النجاح الذي نراه حولنا (في الطبيعة، في الأسواق الحرة، في الابتكار التكنولوجي) ليس نتاج "تصميم ذكي" من قبل سلطة مركزية. بل هو نتاج عملية "تطور" عمياء: ملايين المحاولات الفاشلة التي تم التخلص منها بهدوء، وعدد قليل من النجاحات التي صودف أنها كانت مناسبة للبيئة فبقيت وتكررت. الرسالة الفلسفية هنا هي دعوة للتواضع. بدلاً من محاولة "تصميم" النجاح من الصفر، يجب أن نركز على "خلق بيئة" تسمح للنجاح بأن "يظهر" بنفسه عبر التجربة والخطأ.


 ثقافة التجربة والفشل الذكي

في الختام، كتاب "التكيف: لماذا يبدأ النجاح دائمًا بالفشل" هو دعوة شجاعة لإعادة تعريف علاقتنا بالفشل. إنه ليس حدثاً مؤسفاً يجب تجنبه بكل ثمن، بل هو المكون السري والضروري للابتكار والنجاح في عالم لا يمكن التنبؤ به.

يدعونا هارفورد إلى بناء أنظمة (سواء في شركاتنا أو حياتنا) لا تعاقب الفشل، بل تحتفي بـ "الفشل الذكي" – ذلك الفشل الذي يأتي نتيجة تجربة مدروسة (قابلة للنجاة) ويزودنا ببيانات قيمة للمحاولة التالية. النجاح، في النهاية، ليس سوى آخر محاولة في سلسلة طويلة من الإخفاقات التي تعلمنا منها.


بناءً على أطروحة الكتاب، كيف يمكننا في مؤسساتنا (أو حتى في حياتنا الشخصية) أن نغير ثقافتنا بشكل فعال من "الخوف من العقاب على الفشل" إلى "الاحتفاء بالفشل الذكي" الذي يقود إلى التعلم والتكيف؟

تعليقات