"أرض النفاق" \ يوسف السباعي
الصيدلية التي نرتادها سراً
ماذا لو كانت الأخلاق تُباع على هيئة أقراص؟ ماذا لو كانت الشجاعة، أو الصدق، أو حتى النفاق، مجرد "حبوب" يمكن ابتلاعها عند الحاجة؟
هذه هي الفرضية العبقرية والسوداوية التي بنى عليها يوسف السباعي تحفته الساخرة "أرض النفاق". هذه الرواية ليست مجرد قصة عن رجل يكتشف صيدلية غامضة، بل هي مرآة قاسية تعكس وجوهنا الحقيقية التي نخفيها حتى عن أنفسنا.
السباعي لا يكتب هنا ليُضحكنا (وإن كان يفعل ذلك ببراعة)، بل ليكشف لنا أن "الحضارة" و"الرقي" و"النجاح الاجتماعي" ما هي إلا أسماء مستعارة لـ "نفاق منظم". إنه يضع مجتمعنا كله، بكل قيمه المعلنة، في قفص الاتهام. "أرض النفاق" هي العالم الذي نعيش فيه، والصيدلية الغامضة هي العقد الاجتماعي الذي أبرمناه سراً: أن نكذب جميعاً لنتعايش جميعاً.
رحلة "قاسم" من الصدق إلى النفاق
تنقسم الرواية بوضوح إلى مراحل تحول بطلها:
1. "قاسم": الصدق الكارثي
بطل القصة هو "قاسم"، موظف بسيط ومثالي. مشكلته الأزلية؟ أنه "صادق جداً" و"فاضل جداً" في عالم لا يعترف بهذه القيم.
نتيجته: هو فاشل بامتياز. زوجته تحتقره لفقره وعدم "فهمانيته"، ورئيسه في العمل يتجاهله، وجيرانه يستغلون طيبته. صدقه هو سبب تعاسته المطلقة.
2. "صيدلية الأخلاق": اللقاء المصيري
في ذروة يأسه، يلتقي قاسم برجل غامض يمتلك "صيدلية" لا تبيع الأدوية، بل تبيع "الأخلاق" في زجاجات. يعرض عليه البائع الغامض "حبوب النفاق"، "أقراص الشجاعة"، "مراهم الكذب"، و"قطرات المروءة". يخبره البائع أن هذه الأخلاق هي مجرد "مواد كيميائية" يمكن التحكم بها.
3. "حبة النفاق": مفتاح النجاح
يقرر قاسم (على مضض في البداية) تجربة "حبة النفاق".
النتيجة: سحرية وفورية.
يعود إلى زوجته، فينافقها بكلمات الحب الزائفة، فتذوب فيه عشقاً.
يذهب لعمله، ينافق رئيسه، فيحصل على ترقية فورية.
يكتشف قاسم أن "النفاق" هو الزيت الذي يجعل عجلات المجتمع تدور بسلاسة.
4. "رحلة الصعود": إدمان الأخلاق المصنعة
ينغمس قاسم في التجربة. يجرب "حبوب الشجاعة" (فتجعله يتهور ويفشل)، ويجرب "الكذب"، و"الخداع". يتحول من الموظف الصادق المعدم إلى رجل أعمال ناجح ومنافق ومرموق اجتماعياً. يكتشف أن كل الناجحين حوله (من السياسي الكبير إلى سيدة المجتمع الراقية) هم في الحقيقة "زبائن" دائمون لنفس الصيدلية.
5. "الصحوة": البحث عن الذات
في النهاية، بعد أن حقق كل شيء بالزيف، يشعر قاسم بالاشمئزاز. يدرك أنه فقد الشيء الوحيد الذي كان يملكه: "نفسه". يعود إلى الصيدلية بحثاً عن "حبة الصدق" أو "حبة المروءة" الأصلية، ليجد أن هذه هي السلعة الوحيدة التي لا يطلبها أحد، أو ربما هي الأغلى ثمناً.
الرواية مليئة بالتأملات الساخرة.
1. "نسبية الحزن"
"ما أحمق الإنسان ! يجعل من حياته سلسلة مسببات للحزن. يحزن لأوهى الاسباب وأتفه العلات .. في دنيا ليس بها ما يستحق الحزن .. إنسان تافه في دنيا تافهة .. يحزن المرء لأن بقعة حبر قد سقطت علي ثوبه الأبيض فأتلفته، ولو تذكر عندما أصابه الحزن علي ثوبه أنه ليس أسهل من أن يطوي هو وثوبه الأبيض تحت عجلات الترام، ليغرق ثوبه بالحبر و هو هانىء سعيد."
هذا هو "العلاج بالصدمة" الذي تقدمه الرواية. السباعي يستخدم هنا منطقاً "عدمياً" ليقول إن قلقنا اليومي تافه ليس لأنه صغير، بل لأننا نقارنه بأشياء تافهة مثله (بقعة حبر، خسارة قروش). الفلسفة هنا هي: لا تقارن مصيبتك بمصيبة أصغر، بل قارنها بالمصيبة المطلقة (الموت/الفناء). أنت قلق على "الثوب الأبيض" (الصورة، السمعة، الممتلكات)، لكن "عجلات الترام" (الحقيقة الوجودية الكبرى) قادمة. لو وضعت همومك في هذا السياق، ستدرك "حمق" حزنك. إنها دعوة ساخرة "للاستمتاع" بكونك حياً، حتى لو كان ثوبك مبقعاً.
2. "النفاق" كضرورة اجتماعية (تبرير قاسم)
"إنني لا أنافق... إنني فقط أستخدم 'الكلمة الطيبة' التي أمرنا بها الدين! أليس كذلك؟ إن زوجتي لا تريد أن تسمع أنها أخطأت في طبخة، إنها تريد أن تسمع أنها 'أفضل طاهية'. ورئيسي لا يريد أن يسمع عن أخطاء الإدارة، بل يريد أن يسمع أنه 'عبقري'. إنني لا أكذب، يا سيدي... إنني 'أجمل' الحقيقة. إنها مثل مساحيق التجميل، لا تغير الجوهر، ولكنها تجعل الوجه محتملاً!"
(النفاق كـ "تزييت" اجتماعي): هنا يبرع السباعي في كشف "المنطقة الرمادية" التي نعيش فيها. هو لا يتحدث عن النفاق السياسي العظيم، بل عن النفاق اليومي الصغير. "قاسم" يبرر أفعاله بأنه لا يكذب، بل يمارس "المجاملة" أو "تجميل الحقيقة" (مساحيق التجميل). الفلسفة هنا هي أن المجتمع لا يقوم على "الحقيقة"، بل على "الاتفاق الضمني على الكذب". الحقيقة المطلقة جارحة، مدمرة، وغير قابلة للتعايش. النفاق (أو المجاملة) هو "زيت التشحيم" الذي يمنع آلات المجتمع من الاحتكاك والتدمير. نحن نحتاج الكذب لنحتمل بعضنا البعض.
3. تعريف الفضيلة الفاشلة
"لقد كنت أحمقاً حين ظننت أن الصدق يمكن أن يشتري لي الخبز. إن الناس في أرض النفاق لا يحترمون الصادق، بل يشفقون عليه... يعتبرونه 'ساذجاً' أو 'أبله'. إنهم يحترمون القوي، والكاذب، والمنافق... لأن هؤلاء هم من ينجحون. الفضيلة، يا سيدي، هي ورقة نقدية خرجت من التداول، لا قيمة لها إلا في المتاحف."
(موت الفضيلة): هذا هو قلب الرواية. "قاسم" يعترف بالهزيمة. الفضيلة (الصدق، الأمانة) ليست مجرد شيء "صعب"، بل هي شيء "فاشل" و"غير عملي". المجتمع لا يعاقب الرذيلة، بل يعاقب الفضيلة عندما تكون غير نافعة. الاستعارة هنا مدمرة: "ورقة نقدية خرجت من التداول". هذا يطرح السؤال الأكبر للرواية: هل نتمسك بالفضيلة من أجل ذاتها (حتى لو متنا جوعاً)، أم أن الفضيلة التي لا تجلب النجاح ليست فضيلة أصلاً، بل مجرد "سذاجة"؟
المرآة التي لم تنكسر
"أرض النفاق" هي رواية خالدة، ربما تكون اليوم أكثر صدقاً وواقعية مما كانت عليه وقت كتابتها. لم يختفِ النفاق، بل تطور وأصبح "احترافياً".
عبقرية يوسف السباعي تكمن في أنه لم يقدم حلاً. هو لم يقل لنا "كونوا صادقين"، ولم يقل "كونوا منافقين". لقد اكتفى بتشغيل الضوء في غرفة مظلمة، وكشف لنا أننا جميعاً نرتدي أقنعة، وأننا نسينا شكل وجوهنا الحقيقية تحتها.
الرواية هي صفعة ساخرة تذكرنا بأن "صيدلية الأخلاق" ما زالت مفتوحة، وأننا جميعاً "زبائن" لديها، سواء اعترفنا بذلك أم لا.
بعد هذا العرض الساخر والعميق، وفي ضوء تحول "قاسم" الذي انتقل من الصدق الفاشل إلى النفاق الناجح...
هل تعتقد أن "الصدق المطلق" (كما كان يمارسه قاسم في البداية) هو فضيلة حقيقية، أم أنه شكل من أشكال "الغباء الاجتماعي" أو "الأنانية" (لأنه يؤذي مشاعر الآخرين ولا يحقق أي نفع)؟

تعليقات
إرسال تعليق