"نهاية اللعبة" \ صموئيل بيكيت
نيل : لا شيء أكثر إثارة للضحك و السخرية من التعاسة .بلى .بلى .التعاسة هي أكثر ما يضحك في هذا العالم .نضحك منها .نضحك منها بملئ قلوبنا في البداية .لكنّها تبقى دائماً كما هي .نعم .تشبه الحكاية الجميلة التي نسمعها باستمرار .نجدها باستمرار جيدة .و لكن من دون أن تُضحكنا.
تُعتبر مسرحية "نهاية اللعبة" (Endgame, 1957) لصموئيل بيكيت واحدة من أكثر النصوص كثافةً وتجريداً في "مسرح العبث"، وهي تمثل ذروة التشاؤم البيكيتي. إذا كانت "في انتظار غودو" تدور حول الأمل (العبثي) في الخلاص القادم من الخارج، فإن "نهاية اللعبة" تدور حول اليأس (المؤكد) من استحالة الخلاص من الداخل.
إنها مسرحية عن "الشرط البشري" في لحظته الأخيرة، ليس كحدث نهاية العالم (أبوكاليبس)، بل كـ "تجربة" العيش في غرفة تحتضر، حيث الزمن توقف، واللغة تفككت، والشيء الوحيد المتبقي هو طقوس الألم والاعتمادية المتبادلة. إنها لعبة شطرنج وجودية، وصلت إلى مرحلتها النهائية (Endgame)، حيث "الملك" (هام) محاصر، و"البيدق" (كلوف) منهك، وكل الحركات المتبقية لا تؤدي إلا إلى تأجيل "كش ملك" الحتمي: الصمت.
"نهاية اللعبة" - رقعة الشطرنج الأخيرة
تمثل "نهاية اللعبة" الغرفة الأخيرة للوعي الإنساني. نحن محبوسون في ملجأ (أو جمجمة) مع أربعة شخوص يمثلون أركان الوجود المنهار:
1. هام (Hamm): السيد الأعمى والمقعد. إنه يمثل "العقل" المستبد، أو "الملك" (اسمه يعني "المطرقة" وأيضاً "الممثل المبالغ"). هو مركز المسرحية، لا يستطيع الوقوف، ويعتمد كلياً على كلوف.
2. كلوف (Clov): الخادم الذي لا يستطيع الجلوس. إنه يمثل "الجسد" المنهك، أو "البيدق" (اسمه يعني "المسمار"). هو يرى ولكنه يطيع، يهدد بالرحيل ولكنه لا يرحل أبداً.
3. ناغ (Nagg) ونيل (Nell): والدا هام. بلا أرجل، يعيشان في صناديق قمامة. يمثلان "الماضي" العاجز، والذاكرة التي تحتضر، والحب الذي تحول إلى مجرد بقايا (اسماههما يعنيان "مسمار" أيضاً بالألمانية والإنجليزية القديمة).
الجحيم هو الاعتمادية
العلاقة المركزية بين "هام" و"كلوف" هي جوهر المسرحية. إنها علاقة "سيد وعبد" هيغيلية (نسبة إلى الفيلسوف هيغل) مشوهة. كل منهما يملك ما لا يملكه الآخر: "هام" يملك السلطة (والطعام)، و"كلوف" يملك الحركة (والرؤية). كلاهما يعذب الآخر، وكلاهما لا يستطيع البقاء بدون الآخر.
"هام: لماذا لا تقتلني؟
كلوف: لا أعرف المفتاح السري للخزانة."
هذا الاعتماد المتبادل هو "الجحيم". إنه ليس جحيماً نارياً، بل جحيم بارد من التكرار والاعتمادية. "هام" يحتاج "كلوف" ليحركه ويطعمه و"يصف له العالم" عبر النافذتين، و"كلوف" يحتاج "هام" كـ "سبب" لوجوده، كمركز يدور حوله.
زمن "كاد أن ينتهي"
الزمن في "نهاية اللعبة" لا يمر. إنه "يتراكم". المسرحية تبدأ بعبارة كلوف الشهيرة: "انتهى، لقد انتهى، كاد أن ينتهي، لا بد أنه كاد أن ينتهي". هذه "الكاد" هي المأساة. النهاية لا تأتي أبداً، بل هي دائماً "وشيكة".
إنهم يمارسون "طقوساً" يومية (إعطاء المسكنات، النظر من النافذة، تحريك الكرسي) ليس لهدف، بل فقط لـ "ملء الفراغ" وتأكيد أنهم ما زالوا موجودين. العالم في الخارج "ميت" أو "صفر". النافذة اليمنى تطل على "البر" (موت)، والنافذة اليسرى تطل على "البحر" (موت). لا يوجد شيء قادم.
العلاج المستحيل
هام: "كلوف!"
كلوف: "ماذا؟"
هام: "نحن لا نبدأ في... في... أن نَعني شيئاً؟"
كلوف: "نَعني؟ نحن؟... آه، هذا مضحك!"
هام: (يضحك بمرارة) "... ثم يصرخ فجأة: أريدك أن تكف عن الضحك... كفى! (صمت) ... كل الحياة، نفس الأسئلة، نفس الأجوبة."
هام: (متوسلاً) "ما الذي يحدث، ما الذي يحدث؟"
كلوف: (ببرود) "شيء ما يتبع مساره."
هذا هو الرعب الأكبر عند بيكيت. ليس المعاناة، بل الخوف من أن هذه المعاناة قد تعني شيئاً. في عالم "العبث"، المعنى هو الكذبة الكبرى. "هام" يسأل بخوف: "هل نحن... نعني شيئاً؟". إذا كانت إجابتهم "نعم"، فهذا يعني أن هناك "نظاماً" أو "غرضاً" ما، وهذا سيجعل معاناتهم أكثر قسوة لأنها ستكون "مقصودة".
رد "كلوف" "شيء ما يتبع مساره" هو التعريف الأدق للعبثية: الأمور تحدث، لا لأنها "يجب" أن تحدث أو لأن لها "معنى"، بل لأن هذا هو "مسارها" الميكانيكي.
تعريف الوجود
كلوف: "لم أعد أستطيع."
هام: (متفاجئاً) "أوه! كنت أتساءل متى ستقول ذلك. لكنك مخطئ. أنت تستطيع. لقد عدت. أنت هنا... (يلتفت نحو كلوف) أنت على الأرض، وليس لذلك من علاج!"
هام: "العادة هي المسكن الأعظم."
هذه واحدة من أعمق وأقسى العبارات في المسرح الحديث. المشكلة ليست مرضاً معيناً، أو ظرفاً سياسياً، أو فقراً. المشكلة هي "أنك على الأرض". الوجود نفسه هو المرض الذي لا شفاء منه.
كيف نتعامل مع هذا المرض؟ يجيب "هام": بـ "العادة". "العادة هي المسكن الأعظم". نحن لا نعيش، بل "نتعوّد" على العيش. نستيقظ، نأكل، نعمل، ننام، ليس كاختيارات حرة، بل كـ "عادات" تخدرنا وتمنعنا من مواجهة الحقيقة الكاملة لـ "كوننا على الأرض". إنها مسكن يخفف ألم الوجود، تماماً كالمسكن الذي يطلبه "هام" باستمرار.
الرغبة في النهاية
هام: "النهاية في البداية، ومع ذلك تستمر."
كلوف: "لقد تعبت من دوري."
هام: (لهام) "احتفظ بي هنا. (يلتفت لكلوف) لماذا تبقيني؟"
كلوف: "لا يوجد أحد آخر."
هام: "لا يوجد مكان آخر."
(صمت)
كلوف: "إذاً أنا سأتركك."
هام: "لن تستطيع."
كلوف: "إذاً سأبقى معك."
هام: "لن تستطيع."
هذا هو "المأزق" (Stalemate) الوجودي. "النهاية في البداية" (The end is in the beginning) تعني أننا نولد ونحن نموت؛ الموت ليس حدثاً في نهاية الحياة، بل هو العملية التي تبدأ مع الولادة.
المأساة تكمن في "ومع ذلك تستمر". نحن عالقون. "كلوف" لا يستطيع الرحيل (لأنه لا يوجد "خارج" يذهب إليه)، ولا يستطيع البقاء (لأن البقاء لا يُطاق). هذه هي "نهاية اللعبة": استحالة الاستمرار، واستحالة التوقف. إنه الشلل التام.
أقسى من "غودو": "نهاية اللعبة" هي مسرحية أكثر نضجاً ويأساً من "في انتظار غودو". في "غودو"، كان "فلاديمير" و"إستراغون" ينتظران في العراء، تحت شجرة، كان هناك "أمل" (زائف) بأن "غودو" سيأتي. أما في "نهاية اللعبة"، فالشخصيات في "ملجأ مغلق"، وهم لا ينتظرون أحداً. لقد تخلوا عن الأمل تماماً، وكل ما يفعلونه هو إدارة عملية "الانتهاء".
مسرحية عن الإدمان: يمكن قراءة المسرحية كاستعارة قوية عن الإدمان أو العلاقات السامة (Co-dependency). "هام" (المدمن/المسيطر) و"كلوف" (المُسعِد/الضحية) في حلقة مفرغة من الألم المتبادل. كلاهما يكره الوضع، وكلاهما مرعوب من تغييره.
كوميديا الموت: الضحك في "نهاية اللعبة" هو "ضحك عدمي". نحن نضحك على "ناغ" و"نيل" في صناديق القمامة، وعلى محاولات "كلوف" البائسة مع السلم. إنه الضحك الذي يصفه بيكيت بـ "الضحكة التي تضحك على الضحك". إنه الضحك على الكارثة لأن البكاء لم يعد له معنى.
الوقوف على الحافة
تنتهي المسرحية بقرار "كلوف" أخيراً بالرحيل. "هام" يلقي مونولوجه الأخير، وحيداً في الظلام. نرى "كلوف" واقفاً عند الباب، مرتدياً معطفه، حاملاً حقيبته... ولكنه لا يتحرك.
هذه هي الصورة النهائية للعبث. حتى "الفعل" (الرحيل) مستحيل. "كلوف" عالق بين "الرغبة" في المغادرة و"الشلل" الوجودي الذي يمنعه. هل سيبقى؟ هل سيرحل؟ بيكيت لا يخبرنا، لأن هذا لا يهم. المهم هو حالة "التعليق" الأبدي هذه.
"نهاية اللعبة" هي المأزق الأخير. إنها ليست قصة عن الموت، بل هي الشعور بأن تكون "آخر من تبقى"، عالقاً في غرفة، تراقب العالم وهو يتلاشى إلى "صفر"، مجبراً على الاستمرار في لعبة فقدت كل قواعدها ومعناها.
في نهاية المسرحية، يرى "كلوف" شيئاً من النافذة: "طفل صغير". "هام" يرفض هذا، ويعتبره وهماً. لكن إذا كان "كلوف" محقاً، فإن هذا الطفل يمثل "بداية جديدة" محتملة، أو "دورة" أخرى من المعاناة ستبدأ.
السؤال هو: أيهما أكثر رعباً في عالم بيكيت: أن يكون العالم قد انتهى تماماً (لا شيء في الخارج)، أم أن تكون هناك "بداية جديدة" (الطفل)، مما يعني أن كل هذه المعاناة ستُعاد من جديد، بلا نهاية؟

تعليقات
إرسال تعليق