صناعة الجهل وتفكيكه
الجهل كـ "منتج"
نحن نميل إلى الاعتقاد بأن "الجهل" هو حالة سلبية، فراغ، أو مجرد "عدم" في المعرفة. إنه الحالة الطبيعية التي نولد بها، ونقضي حياتنا في ردمها بالتعليم والتجربة.
هذا الكتاب يقلب الطاولة على هذا المفهوم تماماً.
المقدمة التي يطرحها هذا العمل هي أن الجهل ليس فراغاً، بل هو "صناعة". إنه "منتج" يتم تصنيعه وتوزيعه ونشره بوعي كامل، وباستراتيجيات دقيقة، ولأهداف محددة (سياسية، تجارية، أيديولوجية). الكتاب هو تشريح لهذه "الصناعة" ومحاولة لتقديم الأدوات اللازمة لـ "تفكيكها".
تعريف "الأجنتولوجيا" (Agnotology)
المفهوم المركزي الذي يدور حوله الكتاب هو "الأجنتولوجيا" (Agnotology) - أو "علم الجهل" - وهو مصطلح صاغه روبرت بروكتر (أحد المؤلفين) بنفسه.
الجوهر هنا هو التمييز بين نوعين من الجهل:
الجهل كـ "حالة طبيعية" (Ignorance as Native State): هو الفراغ المعرفي الأولي. (مثال: عدم معرفة طفل بالفيزياء الكمية).
الجهل كـ "بناء مُتعمد" (Ignorance as Construction): هو الجهل المُصنّع. (مثال: خلق "شك" مُصطنع حول حقيقة علمية مُثبتة).
يركز الكتاب بالكامل على النوع الثاني. إنه لا يتحدث عن "الغبي" الذي لا يعرف، بل عن "الذكي" الذي يعمل بجد ليجعلك "لا تعرف".
"إن السؤال الأهم ليس 'لماذا لا نعرف؟' بل 'لماذا، وفي ظل توفر المعرفة، نختار أن نُبقي أموراً معينة في الظلام؟' ... الجهل يُصان بنشاط، وغالباً ما يكون 'الشك' هو المنتج الأغلى الذي تبيعه جهات معينة. إنها لا تبيعك 'كذبة' صريحة، بل تبيعك 'الشك' في الحقيقة، وهذا أخطر."
هذه النقلة هي الأهم. الجهل هنا ليس سلبياً، بل "فعل" (Action).
في السياسة، يتم "صناعة الجهل" عبر "السرية" أو "التضليل".
في التجارة، يتم "صناعة الجهل" عبر "خلق الشك".
في المجتمع، يتم "صناعة الجهل" عبر "إهمال" تواريخ معينة (مثل تاريخ النساء في العلوم، وهو تخصص لوندا شيبينجر) والتركيز على تواريخ أخرى.
المضمون الثاني: آليات "صناعة" الجهل
الكتاب لا يتوقف عند التعريف، بل يشرح "كيف" تتم هذه الصناعة. هذا هو الجزء العملي من التقرير.
"إن أقوى أداة لصناعة الجهل ليست 'المنع' بل 'الإغراق'. في عصرنا، أسهل طريقة لإخفاء إبرة (الحقيقة) ليست بوضعها في صندوق مغلق، بل برميها في كومة قش هائلة من المعلومات غير المهمة والمشتتة... يصبح المستمع مُنهكاً، ويعلن أن 'الحقيقة مستحيلة' أو أن 'الجميع يكذب'، وهذه هي اللحظة التي ينتصر فيها صانع الجهل."
استراتيجية التبغ (The Tobacco Strategy):
هذا هو المثال الكلاسيكي الذي يستخدمه بروكتر. شركات التبغ لم تحاول إثبات أن "التدخين صحي". لقد عملت لعقود على إثبات أن "الأمر غير مؤكد" وأن "الخبراء مختلفون".
"الشك هو منتجنا" (Doubt is our product). لقد قاموا بتمويل أبحاث مضادة، ونشروا الارتباك. لم يبيعوا كذبة، بل "شككوا" في الحقيقة، وهذا كان كافياً لتأخير التنظيمات لعقود.
استراتيجية الإغراق (Information Overload):
في عصر الإنترنت، لا يتم إخفاء الحقيقة بالرقابة، بل بـ "الضجيج".
عندما تغمر الجمهور بآلاف النظريات المتناقضة، والفضائح الصغيرة، والتفاصيل التافهة، يفقد المستقبِل القدرة على التمييز بين المهم والتافه. يصبح "الجهل" نتيجة لـ "التخمة" المعرفية، لا "النقص".
استراتيجية السرية والبناء الانتقائي (Secrecy & Selective Construction):
أن تقرر ما الذي "يجب" أن يُعرف وما الذي "يجب" أن يُنسى.
هذا ما تتخصص فيه لوندا شيبينجر. كيف تم "صناعة الجهل" بتاريخ النساء في العلوم؟ ليس عبر القول "لم يكن هناك عالمات"، بل عبر عدم تمويل هذا البحث، وعدم ذكره في المناهج، وتجاهله أكاديمياً. إنه "جهل" تم بناؤه عبر "الإهمال" المتعمد.
المضمون الثالث: "التفكيك" (Deconstruction)
الجزء الأخير من العنوان ("وتفكيكه") هو دعوة للعمل. إذا كان الجهل "صناعة"، فيمكن "تفكيك" هذه الصناعة.
"تفكيك الجهل لا يبدأ بالبحث عن 'الحقيقة' أولاً، بل بالبحث عن 'المصالح' التي تستفيد من 'الغموض'. لا تسأل 'ما هي الحقيقة؟' بل اسأل 'من المستفيد من ألا أعرف الحقيقة؟' ... إن دراسة 'الجهل' نفسه، وفهم تاريخه، هو الخطوة الأولى نحو المعرفة."
التفكيك هو أن نصبح "علماء جهل" بأنفسنا.
التاريخ النقدي: أن نفهم تاريخ "كيف وصلنا إلى عدم المعرفة". (مثال: كيف تم تجاهل التغير المناخي لعقود؟).
الشفافية: المطالبة بفتح البيانات والسجلات التي تُبنى عليها السرية.
محو الأمية الإعلامية: ليس فقط تعلم "القراءة"، بل تعلم "كيفية قراءة المصالح" خلف الأخبار.
رأي (سياسي): هذا الكتاب هو أداة سياسية من الدرجة الأولى. إنه يسلح القارئ بـ "نظارات" تكشف الآليات الخفية للسلطة. السلطة اليوم لا تحكم بالقمع فقط، بل بـ "إدارة المعرفة" و"تصنيع الغباء" الاستراتيجي.
رأي (علمي): الكتاب هو دفاع عن "العلم" ليس كمعلومات، بل كـ "منهج". إنه يوضح أن الهجوم على العلم (سواء في التبغ أو المناخ) لا يتم عبر مهاجمة "النتائج"، بل عبر مهاجمة "المنهج" نفسه (عبر خلق شك مصطنع حوله).
رأي (وجودي): على المستوى الفردي، الكتاب مرعب لأنه يخبرك أن "جهلك" قد لا يكون خطأك، بل قد يكون "تصميماً" فُرض عليك. لكنه مُحرّر في نفس الوقت، لأنه يمنحك الأدوات للبدء في "تفكيك" هذا التصميم.
ما وراء المعرفة
"صناعة الجهل وتفكيكه" هو أكثر من مجرد كتاب عن "المعلومات المفقودة". إنه كتاب عن "القوة". إنه يجادل بأن المعركة الأساسية في القرن الحادي والعشرين ليست بين اليمين واليسار، أو الشرق والغرب، بل بين "الوضوح" و"الغموض المُصطنع".
الرسالة النهائية هي أن "المعرفة" ليست مجرد تجميع للحقائق. المعرفة الحقيقية هي "الوعي" بالعمليات التي تحاول منعك من معرفة تلك الحقائق. أن تكون "واعياً" اليوم يعني أن تدرك أنك مستهدف دائماً بـ "صناعة الجهل".
يطرح الكتاب أن "الشك" هو المنتج الأخطر في صناعة الجهل (كما في مثال التبغ). لكن في نفس الوقت، "الشك المنهجي" (كما عند ديكارت) هو أساس التفكير العلمي والفلسفي.
كيف يمكننا، كأفراد، أن نميز بين "الشك الصحي" الذي يقودنا إلى الحقيقة، و"الشك المُصنَّع" الذي تم تصميمه عمداً لإبعادنا عنها؟

تعليقات
إرسال تعليق