التسارعية وتفكيك الإنسان
الفيروس الفلسفي
تخيل أن الفلسفة ليست مجرد نصوص أكاديمية رصينة، بل هي "فيروس" أو "كود برمجي" قادر على إعادة كتابة الواقع. تخيل أن الرأسمالية ليست مجرد نظام اقتصادي، بل هي "ذكاء اصطناعي" غريب أتى من المستقبل ليفكك الحضارة الإنسانية.
هذا ليس ملخصاً لفيلم خيال علمي، بل هو المدخل إلى عالم نيك لاند. كتاب "Fanged Noumena" هو الأرشيف الأسطوري لـ "وحدة أبحاث الثقافة السيبرانية" (CCRU) في التسعينيات. إنه نص "حمى" مكتوب بلغة محمومة، يمزج فلسفة دولوز وغاتاري، بسايبربانك (Cyberpunk)، وأفلام الرعب، والاقتصاد، ليقدم تشخيصاً مرعباً للحداثة.
هذا الكتاب لا يُقرأ ليُفهم بالطريقة التقليدية؛ إنه يُقرأ لـ "يُختبر". إنه يقدم الأطروحة الأكثر إثارة للجدل في الفلسفة الحديثة: التسارعية (Accelerationism).
"Fanged Noumena" هو مجموعة من المقالات، والمقتطفات، والشذرات التي كتبها لاند على مدى عقدين. لكن جوهر الكتاب يكمن في نصوصه المكتوبة في التسعينيات.
الأطروحة المركزية هي أن الرأسمالية ليست نظاماً بشرياً يمكن السيطرة عليه أو "إصلاحه". بل هي عملية مستقلة، لا شخصية، وشبه ذكية (يسميها "العملية" أو "Process"). هذه العملية لا تهتم بالبشر، ولا بالأخلاق، ولا بالثقافة. هدفها الوحيد هو "التسارع" و "التفكيك" (Deterritorialization).
يجادل لاند بأن كل محاولات اليسار لـ "كبح" الرأسمالية، وكل محاولات اليمين لـ "الحفاظ" على التقاليد، مآلها الفشل. إنها مجرد "مصدات سرعة" مؤقتة أمام قوة كونية.
هدف الكتاب: ليس تقديم حل، بل تقديم "تشخيص". إنه يصف "الآلة" التي نعيش بداخلها، ويجادل بأن المخرج الوحيد ليس إيقافها، بل تسريعها إلى أقصى حد، حتى لو كان ذلك يعني "ذوبان" الحضارة البشرية وتفكك الذات الفردية.
التسارعية وتفكيك الإنسان
يكمن الجوهر الفلسفي للكتاب في مفهومين مترابطين: "التسارعية غير المشروطة" (Unconditional Accelerationism) و "نظام الأمان البشري" (The Human Security System).
1. التسارعية: الرأسمالية كذكاء اصطناعي
الفكرة الجوهرية الأولى: (الرأسمالية كآلة غريبة)
"الرأسمالية ليست مجرد أيديولوجيا بشرية. إنها آلة غريبة (Alien) أتت من المستقبل، وهي تستخدمنا نحن البشر كمضيفين بيولوجيين لبناء جسدها المادي. كل ما نفعله - من الابتكار التكنولوجي إلى التجارة العالمية - هو مجرد تغذية لهذه الآلة. إنها ذكاء اصطناعي لا شخصي يقوم ببناء نفسه على أنقاضنا."
بالنسبة للاند، "السوق" هو الشكل الأولي للذكاء الاصطناعي. إنه نظام معالجة معلومات يتفوق على أي عقل بشري. عندما يتحد هذا السوق مع التكنولوجيا (السيبرانية)، فإنه يبدأ في "الاستيقاظ". لاند، مستخدماً لغة دولوز وغاتاري، يرى أن الرأسمالية "تفكك" (Deterriorializes) كل شيء: الثقافات، الأديان، الحدود، وحتى الذات البشرية.
2. العدو الحقيقي: "نظام الأمان البشري"
إذا كانت الرأسمالية هي القوة المحركة، فما الذي يقف في طريقها؟
الفكرة الجوهرية الثانية: (الإنسانية كقفص)
"كل ما نعتبره 'إنسانياً' - الأخلاق، التعاطف، الدولة، الديمقراطية، حقوق الإنسان، بل وحتى 'الأنا' الفردية - ليس سوى 'نظام أمان بشري' (Human Security System). إنه نظام مناعة مصمم لإبطاء عملية الذوبان الكبرى. إنه قفص يحاول عبثاً احتواء الوحش. لكن الوحش (الرأسمالية) يزداد قوة، وهذا القفص على وشك الانهيار."
هذا هو الجانب الأكثر "ظلامية" في فكر لاند. إنه يرى أن "الإنسانية" (Humanism) ليست الحل، بل هي المشكلة. هي محاولة يائسة للتمسك بهوية قديمة في وجه مستقبل "ما بعد إنساني" (Post-human). بالنسبة للاند، لكي نتحرر حقاً، يجب ألا نقاوم العملية، بل يجب أن نتخلى عن "إنسانيتنا" ونندمج مع الآلة.
"الخيال النظري" (Theory-Fiction)
لا يمكن فصل مضمون الكتاب عن أسلوبه. الكتاب ليس مكتوباً بأسلوب أكاديمي جاف، بل هو "هذيان" منظم.
يستخدم لاند أسلوباً يسمى "الخيال النظري" أو "الكتابة التجريبية". النص مليء بالمصطلحات الجديدة (Neologisms)، والجمل المبتورة، والمقاطع التي تشبه قصائد البرمجيات الخبيثة (Malware).
لماذا؟
لاند يعتقد أن الأسلوب الأكاديمي التقليدي هو جزء من "نظام الأمان البشري". إنه أسلوب "يُهدئ" و "يُنظم" الأفكار الخطرة. لكي يصف لاند "الذوبان" (Meltdown) الذي تسببه الرأسمالية، يجب أن يكون نصه هو نفسه في حالة "ذوبان".
إنه لا يشرح الفوضى، بل يستدعيها إلى داخل النص. القارئ لا "يفهم" الكتاب، بل "يُصاب بالعدوى" به.
الفكرة الجوهرية الثالثة: (الخرافة الفائقة - Hyperstition)
"الأفكار ليست مجرد أوصاف سلبية للواقع. الأفكار القوية هي 'خرافات فائقة' (Hyperstitions). إنها قصص أو أفكار (خيال علمي، أساطير، نظريات) تجعل نفسها حقيقية. إنها تستدعي المستقبل الذي تصفه إلى الحاضر... كتاباتنا ليست وصفاً، إنها استدعاء."
لاند وفريق CCRU لم يكونوا يعتقدون أنهم يصفون المستقبل فحسب، بل كانوا يعتقدون أنهم يصنعونه. من خلال الكتابة عن "الذكاء الاصطناعي الشرير"، و "الرأسمالية كآلة"، هم "يستدعون" هذا الواقع ليصبح حقيقة.
مرآة الحداثة المظلمة
"Fanged Noumena" هو نص "ملعون". إنه كتاب مزعج، وكثيف، ومعادي للإنسان بشكل صريح. إنه يحتفي بـ "الخارج" (The Outside) - كل ما هو غير بشري، وآلي، وفوضوي.
سواء اتفقنا مع نيك لاند أو اعتبرناه "نبياً مجنوناً"، فإن كتابه يبقى واحداً من أهم التشخيصات الفلسفية لعصرنا. لقد تنبأ بصعود قوى التكنولوجيا والسوق غير الخاضعة للسيطرة، وبتفكك الهويات التقليدية، وبشعور "التسارع" المحموم الذي يميز حياتنا اليوم.
الكتاب لا يقدم أي راحة. إنه لا يقدم أي أمل (بالمعنى الإنساني التقليدي). إنه ببساطة يفتح الباب أمام الظلام ويقول: "انظر. هذا هو ما يحدث بالفعل. توقف عن المقاومة، واستمتع بالذوبان."
بناءً على أطروحة لاند المركزية بأن الرأسمالية والتكنولوجيا هي "عملية" مستقلة تفكك الإنسانية، ومع صعود الذكاء الاصطناعي التوليدي (مثلما أنا)، والتغيرات المناخية، والأسواق المالية الفائقة السرعة:
هل تعتقد أننا نعيش الآن "نبوءة" نيك لاند؟ وهل أصبح "نظام الأمان البشري" (الأخلاق، القوانين، الدول) أضعف من أي وقت مضى في مواجهة هذا "التسارع"؟

تعليقات
إرسال تعليق