الهوية الشخصية عند جون لوك
تُعد نظرية الهوية الشخصية التي قدمها الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632-1704) في كتابه الشهير "مقالة في الفهم الإنساني" (An Essay Concerning Human Understanding)، حجر زاوية في الفلسفة الحديثة، حيث أحدثت نقلة نوعية في فهم الذات، بعيدًا عن التصورات الميتافيزيقية القائمة على الجوهر المادي أو الروحي. يرى لوك أن الهوية الشخصية لا تكمن في استمرارية الجسد أو الروح، بل في استمرارية الوعي والذاكرة.
1. تعريف الشخص: كائن عاقل ومفكر
يبدأ لوك بتعريف "الشخص" على أنه "كائن مفكر عاقل، يملك عقلاً وتفكيراً، ويمكنه أن يعتبر ذاته هي ذاتها، كشيء مفكر واحد في أزمنة وأمكنة مختلفة". هذا التعريف يضع الأساس لفهم أن ما يميز الشخص ليس مادة جسده أو جوهر روحه، بل قدرته على الوعي بذاته عبر الزمن.
2. الوعي كأساس للهوية (Consciousness)
المفهوم المركزي في نظرية لوك هو "الوعي". يرى لوك أن الوعي "يرافق التفكير دائمًا، وهو ما يجعل كل واحد هو ذاته، وبهذا يميز نفسه عن كل الأشياء المفكرة الأخرى". الهوية الشخصية، إذن، تمتد إلى الحد الذي يمتد إليه هذا الوعي. فأنا هو الشخص نفسه الذي كان بالأمس، لأن وعيي الحالي متصل بوعي الأمس. هذا الوعي ليس مجرد إدراك للحظة الحالية، بل هو القدرة على ربط التجارب والأفعال المختلفة بذات واحدة.
3. الذاكرة: خيط الوعي المستمر (Memory)
إذا كان الوعي هو ما يشكل الهوية الشخصية، فإن الذاكرة هي الآلية التي تضمن استمرارية هذا الوعي عبر الزمن. من خلال الذاكرة، يمكن للشخص أن يستدعي أفكاره وأفعاله الماضية ويعتبرها جزءًا من "أناه" الحالية. فالشخص الذي ارتكب فعلاً قبل عشر سنوات هو الشخص نفسه الذي يُساءل عنه اليوم، طالما أنه يتذكر (أو يمكنه أن يتذكر) قيامه بذلك الفعل. وبهذا المعنى، فإن الذاكرة هي التي تخلق وتصون خيط الهوية الشخصية الذي يربط ماضينا بحاضرنا ومستقبلنا.
4. الانفصال عن الجوهر المادي والروحي
كانت الأطروحة الثورية للوك هي فصل الهوية الشخصية عن هوية الجوهر، سواء كان هذا الجوهر ماديًا (الجسد) أو لا ماديًا (الروح).
الجسد: يجادل لوك بأن الجسد يتغير باستمرار، فخلايانا تتجدد، ومع ذلك نظل الشخص نفسه. لو كانت هويتنا مرتبطة بالجسد، لكنا شخصًا مختلفًا مع كل تغيير يطرأ عليه. ويضرب مثالاً افتراضيًا: لو استبدلت يد شخص ما، فإنه يظل الشخص نفسه.
الروح: وبالمثل، يرى لوك أنه حتى لو افترضنا وجود روح خالدة، فإن الهوية الشخصية لا تضمنها استمرارية هذه الروح. فمن الممكن، نظريًا، أن تنتقل روح شخص إلى جسد آخر دون أن تحمل معها وعي وذاكرة الشخص الأصلي. في هذه الحالة، سيكون لدينا جسد جديد بروح قديمة، ولكنه لن يكون الشخص نفسه. والعكس صحيح، لو أن وعي وذكريات شخص ما (لنقل أمير) انتقلت إلى جسد شخص آخر (إسكافي)، فإن الشخص الذي يستيقظ بوعي الأمير وذكرياته في جسد الإسكافي هو الأمير، وليس الإسكافي.
5. الأهمية الأخلاقية والقانونية
تترتب على نظرية لوك نتائج مهمة في مجال الأخلاق والقانون. فالمسؤولية عن الأفعال ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالوعي والذاكرة. الشخص يُكافأ أو يُعاقب على أفعاله الماضية لأنه هو الشخص نفسه الذي قام بها، والذاكرة هي التي تؤسس هذا الارتباط. بدون الذاكرة، كما يرى لوك، تفقد مفاهيم العدالة والمساءلة معناها.
"لأن الوعي هو الذي يجعل الشخص هو نفسه دائمًا، فإن الهوية الشخصية تعتمد عليه وحده، سواء ارتبط هذا الوعي بجوهر فردي واحد فقط، أو استمر في تعاقب جواهر مختلفة. فبقدر ما يمكن لهذا الوعي أن يمتد إلى الوراء ليشمل أي فعل أو فكر ماضٍ، فإنه يصل إلى هوية ذلك الشخص."
- مقالة في الفهم الإنساني، الكتاب الثاني، الفصل 27، الفقرة 10
"الشخص، كما أراه، هو اسم لكائن ذاتي. وأينما وجد إنسان ما يخصه فعلاً ما وفكراً ما، فإن هذا الإنسان هو شخص. وهو اسم ينطبق فقط على الكائنات العاقلة والذكية، القادرة على اتباع القانون، وعلى السعادة والشقاء."
- مقالة في الفهم الإنساني، الكتاب الثاني، الفصل 27، الفقرة 26
"لنجعل إنسانًا يفقد تمامًا وعي جزء من حياته، بحيث لا يستطيع استعادته أبدًا، فإنه لن يكون مسؤولاً عن الأفعال التي قام بها خلال ذلك الجزء، تمامًا كما لو أنه لم يقم بها قط."
- مقالة في الفهم الإنساني
أثارت نظرية لوك جدلاً فلسفيًا واسعًا، وتعرضت لنقد من عدة فلاسفة، أبرزهم:
1. نقد توماس ريد (Thomas Reid) - مشكلة الضابط الشجاع
قدم الفيلسوف الإسكتلندي توماس ريد (1710-1796) أحد أشهر الانتقادات لنظرية لوك، والذي يُعرف بـ "اعتراض الضابط الشجاع" (Brave Officer Paradox). يقول الاعتراض:
لنفترض أن صبيًا سُرق من بستان تفاح وعُوقب على ذلك.
هذا الصبي كبر وأصبح ضابطًا شجاعًا في الجيش، ويتذكر بوضوح سرقة التفاح. إذن، بناءً على نظرية لوك، الضابط هو نفس شخص الصبي.
في شيخوخته، أصبح هذا الضابط جنرالاً عجوزًا. الجنرال يتذكر بوضوح أفعاله كضابط شجاع، ولكنه نسي تمامًا حادثة سرقة التفاح في طفولته. إذن، بناءً على نظرية لوك، الجنرال هو نفس شخص الضابط، ولكنه ليس نفس شخص الصبي.
هنا يكمن التناقض: إذا كان (أ = ب) و (ب = ج)، فمن المفترض منطقيًا أن (أ = ج). ولكن وفقًا لنظرية لوك في هذا المثال، الضابط (ب) هو الصبي (أ)، والجنرال (ج) هو الضابط (ب)، لكن الجنرال (ج) ليس هو الصبي (أ). يرى ريد أن هذا يوضح خللاً جوهريًا في الاعتماد على الذاكرة وحدها كأساس للهوية، لأن الذاكرة قد تكون متقطعة.
2. ديفيد هيوم (David Hume) - إنكار وجود الذات المستمرة
ذهب الفيلسوف التجريبي ديفيد هيوم (1711-1776) إلى أبعد من لوك في نقده. بينما حاول لوك تأسيس هوية شخصية مستمرة على الوعي، أنكر هيوم وجود أي "ذات" أو "أنا" مستقرة وثابتة على الإطلاق. يرى هيوم أنه عندما نتأمل في داخلنا، كل ما نجده هو "حزمة أو مجموعة من الإدراكات المختلفة" (a bundle or collection of different perceptions) التي تتعاقب بسرعة هائلة. لا يوجد انطباع حسي بسيط ومستمر عن "الذات".
بالنسبة لهيوم، فإن فكرة الهوية الشخصية هي مجرد وهم أو "نزعة خيالية" للعقل لربط هذه الإدراكات المتعاقبة معًا، مدفوعًا بعلاقات التشابه والسببية. وبالتالي، فإن هيوم لا يختلف مع لوك في رفض الجوهر كأساس للهوية فحسب، بل يتجاوزه إلى القول بأن فكرة الهوية الشخصية المستمرة نفسها هي بناء عقلي وليست حقيقة وجودية.
جوزيف بتلر (Joseph Butler): انتقد لوك قائلاً إن الذاكرة تفترض مسبقًا وجود هوية شخصية، ولا تخلقها. فأنا أتذكر أفعالي "أنا"، مما يعني أن هناك "أنا" موجودة بالفعل لتقوم بفعل التذكر.
ديريك بارفيت (Derek Parfit): في الفلسفة المعاصرة، طور ديريك بارفيت أفكار لوك، مقترحًا أن ما يهم ليس الهوية الشخصية (بالمعنى الصارم للكلمة)، بل "الاستمرارية النفسية" (Psychological Continuity). قد لا أكون "نفس الشخص" تمامًا بعد خمسين عامًا، لكن هناك درجات من الارتباط النفسي التي تجعل بقائي مهمًا بالنسبة لي.
في ضوء التطورات التكنولوجية والطبية الحديثة، مثل إمكانية تحميل الوعي (Mind-uploading) أو زراعة ذكريات زائفة، إذا تم نسخ وعيك وذكرياتك بالكامل وزرعها في جسد آلي مطابق لجسدك، بينما يظل جسدك الأصلي ووعيك موجودين، فأي منهما سيكون "أنت" الحقيقي؟ وهل تفقد نظرية لوك القائمة على الوعي والذاكرة قدرتها على الإجابة على هذا السؤال، أم أنها تقدم لنا إطارًا لفهم هذا الاحتمال المقلق؟
تعليقات
إرسال تعليق