"وحْي القلم" \ مصطفى صادق الرافعي
في جمال النفس يكون كل شيء جميلا، إذ تُلقي النفس عليك من ألوانها، فتنقلب الدار الصغيرة قصرًا ، لأنها في سعة النفس لا في مساحتها هي ، و تعرف لنور النهار عذوبة كعذوبة الماء على المطر، و يظهر الليل كأنه معرض جواهر أقيم للحور العين في السماوات ، و يبدوالفجر بألوانه و أنواره و نسماته كأنه جنة سابحة في الهواء ، في جمال النفس ترى الجمال ضرورة من ضرورات الخليقة ، وي كأن الله أمر العالَم ألا يعبس للقلب المبتسم .
يُعد كتاب "وحْي القلم" للعملاق الأدبي مصطفى صادق الرافعي، ليس مجرد كتاب، بل هو صرح شامخ في الأدب العربي الحديث. إنه يمثل ذروة النضج الفكري والبياني للرافعي، وهو عبارة عن سجل حافل لـ "وحي قلمه" الذي لم ينقطع، يمزج فيه ببراعة منقطعة النظير بين الفكر العميق، والشعور الجياش، واللغة التي تلبس ثوب الجمال والجلال.
هذا الكتاب ليس رواية ذات حبكة واحدة، بل هو "ديوان من النثر"، يضم مجموعة المقالات والخواطر والقصص القصيرة التي نشرها الرافعي على مدى سنوات، خاصة في مجلة "الرسالة" الشهيرة. لذلك، فإن قراءته تشبه التجول في بستان غنّاء، كل شجرة فيه تقدم ثمرة مختلفة: مرة تجد نقداً اجتماعياً لاذعاً، ومرة تجد تحليلاً فلسفياً للحب والألم، وتارة تجد دفاعاً مستميتاً عن هوية الأمة ولغتها.
يمكن تقسيم الكنز الموجود في "وحي القلم" إلى محاور فكرية كبرى، تمثل الأعمدة التي قام عليها بناء هذا الأثر الخالد:
1. القلعة اللغوية: الدفاع عن العربية والإسلام
يُعتبر الرافعي "حارس بوابة" اللغة العربية في عصره. في "وحي القلم"، تبرز مقالاته كسيف مسلط ضد كل من شكك في قدرة العربية على مواكبة العصر، وضد دعوات "العامية" والتغريب. لم يكن دفاعه مجرد شعارات، بل كان دفاعاً بالأسلوب؛ فكان يثبت بقلمه أن هذه اللغة قادرة على التعبير عن أدق خلجات النفس وأعقد النظريات الفلسفية ببيان هو في ذاته معجزة. كما أن الكتاب يفيض بروح إيمانية عميقة، تربط بين جمال اللغة وكمال الدين، وتجعل من الأدب رسالة أخلاقية وروحية.
2. المشرط الاجتماعي: نقد الظواهر والأخلاق
لم يكن الرافعي منعزلاً في برجه العاجي. لقد كان قلبه ينبض مع الشارع. يحتوي الكتاب على لوحات إنسانية مؤثرة (مثل مقالاته الشهيرة عن "المساكين" أو "حديث القمر")، ينتقد فيها بمرارة الفوارق الطبقية، وقسوة الأغنياء، والنفاق الاجتماعي. فلسفته هنا هي فلسفة الرحمة؛ فهو يرى أن المجتمع لا يستقيم إلا إذا شعر الغني بألم الفقير، وأن قيمة الإنسان الحقيقية ليست في ماله، بل في قدرته على العطاء والشعور.
3. الأعماق الفلسفية: الحب، والألم، والجمال
هذا هو الجانب الأكثر عمقاً وخلوداً في الكتاب. يقدم الرافعي فلسفته الخاصة في الوجود:
الحب: لا يراه غريزة عابرة، بل هو عنده قوة كونية، وحقيقة إلهية تكتمل بها النفس. حبه عذري، يرتفع عن المادة ليصبح رابطاً بين الأرواح.
الألم: لا يراه شراً محضاً، بل هو مُطهر ومُربي. يرى الرافعي أن الألم هو الذي يصقل النفوس العظيمة، وأن الدموع هي التي تغسل القلب ليرى الحقيقة.
الجمال: ليس مجرد شكل، بل هو انعكاس للحقيقة الإلهية في الكون.
الحب والكمال الروحي
"قالت: فما هو الحب؟
قلت: الحبُّ يا بُنيتي، هو هذا الذي متى وُجد؛ وجد كل شيء، ومتى فُقد؛ فُقد كل شيء... هو أن تجد في روحك رُوحاً أخرى تمازجها، كأنها هي، لا تدري كيف دخلت ولا متى، ولكنك تدري أنها هي التي كانت ناقصة فيك فكمَّلتك، وأنك كنت ميتاً بها فأحيتك. الحب هو أن ترى في كل شيءٍ وجه محبوبك، لا لأن عينك تراه، بل لأن قلبك قد أصبح هو الذي يرى."
يتجاوز الرافعي هنا التعريفات المادية أو العاطفية السطحية للحب. إنه يقدم تعريفاً وجودياً (Existential). الحب ليس "إضافة" جميلة للحياة، بل هو الحياة نفسها.
الحب هو "الكمال" (Completion). الروح الإنسانية، بحسب الرافعي، ناقصة بطبيعتها، ولا يكملها إلا لقاء روح أخرى ليست "شبيهة" بها، بل هي "جزء منها".
العمق: ينتقل الرافعي من "الرؤية بالعين" إلى "الرؤية بالقلب". هذه ليست استعارة رومانسية، بل هي نظرية في المعرفة؛ فالحب يغير أداة الإدراك لديك، فتصبح مدركاً لحقائق الكون (الجمال، الخير) التي لم تكن تراها من قبل.
الأسلوب ووحدة اللفظ والمعنى
"إنما البلاغةُ هي أن يبلغَ الكاتبُ بعبارته من نفس القارئ مبلغَ ما يريدُ هو من نفسه. ليست البلاغةُ في اللفظ، ولا في المعنى، ولكنها في مِقدارِ ما بينهما من النسبة، وفي قوةِ ائتلافهما، حتى لَيكونَ اللفظُ هو المعنى بعينه، والمعنى هو اللفظَ في ذاته. فإذا بلغتَ هذه المنزلة، فأنت لا تكتب، بل أنت تُخرج من روحك صوراً حية."
هذا الاقتباس هو النظرية التي بنى عليها الرافعي مدرسته الأدبية بأكملها.
هي "الوحدة المطلقة بين الشكل والمضمون". يرفض الرافعي التقسيم الشائع بين "اللفظ" (الزخرفة) و"المعنى" (الفكرة).
البلاغة الحقيقية، في نظره، هي عندما "يتلاشى" اللفظ ليصبح هو الفكرة ذاتها، وعندما "تتجمد" الفكرة لتصبح هي اللفظ. الكتابة العظيمة ليست نقل أفكار، بل هي "خلق" كائنات حية (صوراً حية) من الروح. هذا هو السبب في أن أسلوب الرافعي ليس مجرد "صعوبة" لغوية، بل هو ضرورة فلسفية لقول ما لا يمكن قوله بلغة أبسط.
الفقر والكرم الإنساني (من مقالة "المساكين")
"أيها الأغنياء، تَعَلَّموا من الفقراء كيف يكونُ الكَرَمُ. إنكم تُعطونَ مما يَزيدُ عن حاجتكم، أما هُمْ فيعطونَ مِمَّا هو حاجتُهم... إنَّ الفقيرَ لا يملكُ إلا إنسانيتَهُ، فإذا جادَ بها، فقد جادَ بكلِّ شيء. إنَّ في الفقرِ مدرسةً للأخلاقِ، لا يعرفُها إلا مَنْ دَخَلَها وتعلَّمَ فيها... إنهم يعيشون بالقلب، وأنتم تعيشون بالمعدة أو بالدماغ."
هنا، يقلب الرافعي المفاهيم الاجتماعية السائدة رأساً على عقب.
إعادة تعريف القيمة. القيمة ليست في "الامتلاك" (Possession)، بل في "الوجود" (Being).
الغني يعطي من "الفائض"، وهذا عطاء مادي سهل. أما الفقير، فعندما يعطي (ابتسامة، أو لقمة هي قوته)، فهو يعطي "من ذاته"، من إنسانيته. لذا، كرم الفقير هو كرم وجودي، بينما كرم الغني هو كرم مادي. هذه النظرة تجعل من الفقر (في بعض جوانبه) تجربة أخلاقية ثرية، تتيح للإنسان أن يكون "إنساناً" بشكل أكمل، لأنه يعيش بقلبه (جوهر الوجود) لا بمعدته (الغرائز) أو دماغه (الحسابات).
"وحي القلم" ليس كتاباً تقرأه مرة واحدة، بل هو رفيق درب تعود إليه كلما احتجت إلى شحذ روحك، أو صقل لغتك، أو فهم معنى أعمق للحياة. إنه مدرسة كاملة في الأدب، والفكر، والأخلاق. استطاع الرافعي أن يثبت أن اللغة العربية ليست مجرد أداة تواصل، بل هي أداة تفكير فلسفي قادرة على الغوص في أعمق أسرار النفس والكون.
في عصرنا الحالي الذي يُهيمن عليه الإيجاز الشديد (التغريدات والقصص القصيرة) واللغة البسيطة والمباشرة، هل ترى أن أسلوب الرافعي البياني المُكثّف وفلسفته العميقة لا يزالان قادرين على الوصول لقلب وعقل القارئ الشاب، أم أن "وحي القلم" تحول إلى تُراث عظيم يُدرس ويُقدّر أكثر مما يُعاش ويُقرأ بشغف؟

تعليقات
إرسال تعليق