"معنى الحياة" \ تيري إيجلتون

 







(الفيلسوف ذو المطرقة)

في سوق الأفكار المزدحم بـ "أدلة المستخدم" للوجود، يأتي كتاب تيري إيجلتون "معنى الحياة" ليس كـ "وصفة" جاهزة، بل كـ "مطرقة" فيلسوف. إيجلتون يرفض السؤال بصيغته الساذجة، لكنه يرفض أيضاً، وبقوة أكبر، الإجابات الساذجة التي يقدمها كل من العصر النيوليبرالي، والعدمية ما بعد الحداثية، وحتى بعض التفسيرات الدينية التبسيطية.


"كيف نفكر" في السؤال. إيجلتون لا يبحث عن "شيء" سري اسمه "المعنى"، بل يجادل بأن المعنى ليس شيئاً نكتشفه، بل هو شيء "نمارسه" ونبنيه، ولكن ليس كما يظن الأغلبية.




 (هدم الأوهام وبناء البديل)


يقسم إيجلتون رحلته بذكاء إلى هدم وبناء:


القسم الأول: لماذا فشل الآخرون؟ (هدم الإجابات الشائعة)


قبل أن يقدم إجابته، يجب أن يزيح الركام. يرى إيجلتون أن "أزمة المعنى" حديثة نسبياً، وبدأت حين تخلت الإجابات الكبرى (كالدين) عن دورها، وحاولت إجابات أخرى فاشلة أن تحل محلها:


1.  نقد العدمية (ما بعد الحداثة):

    ينتقد إيجلتون بشدة فكرة أن الحياة "لا معنى لها" وأن كل شيء مجرد "سرديات" نصنعها. يرى أن هذا الموقف ليس شجاعاً، بل هو "رومانسية مقلوبة"؛ أي أنهم أرادوا إجابة كونية كبرى، وعندما لم يجدوها، أعلنوا إفلاس المعنى تماماً.

2.  نقد الذاتية (الرأسمالية الفردية):

    يسخر إيجلتون من فكرة "اصنع معناك الخاص" (Find your own meaning). يرى أن هذه هي الإجابة الرأسمالية: "المعنى" أصبح سلعة أخرى نختارها من على الرف. هو يرى أن المعنى لا يمكن أن يكون مجرد قرار فردي؛ وإلا، فما الفرق بينه وبين الهذيان؟

3.  نقد السعادة (علم النفس الإيجابي):

    يرفض فكرة أن معنى الحياة هو "أن تكون سعيداً". يرى أن هذا هدف تافه وسطحي. فالحياة المليئة بالمعنى قد تكون مليئة بالألم والمعاناة (مثال: حياة نيلسون مانديلا في السجن). السعادة هي "أثر جانبي" لحياة ذات معنى، وليست هي الهدف.


 القسم الثاني: ما هو المعنى إذن؟ (البناء والتأسيس)


بعد الهدم، يبدأ إيجلتون في بناء نظريته، وهي مستمدة من أرسطو، ماركس، والمسيحية (تحديداً فكرة "الأغابي"):


1.  العودة إلى "الطبيعة البشرية" (أرسطو وماركس):

    يجادل إيجلتون بأننا كائنات لنا "طبيعة" محددة (مثلما للنمور طبيعة). هذه الطبيعة هي أننا كائنات "اجتماعية"، "مبدعة"، "لغوية"، و "عاقلة". "معنى الحياة" يكمن في "الازدهار" (Flourishing) أو "تحقيق" هذه الطبيعة بأقصى إمكاناتها.

2.  الإجابة: فرقة الجاز (الحب كـ ممارسة):

    هنا تكمن عبقرية إيجلتون. يقدم استعارة "فرقة الجاز" (Jazz Quartet) كأفضل نموذج لمعنى الحياة.


     في فرقة الجاز، كل عازف يعبر عن "فرديته" إلى أقصى حد (عزفه المنفرد).

     ولكن، هو لا يفعل ذلك في فراغ. إبداعه الفردي لا يتحقق إلا "بالاستماع" العميق للآخرين و "التناغم" معهم.

     النتيجة هي "كل" أعظم من مجموع أجزائه.

    هذا هو المعنى: "أن نحقق ذواتنا الفردية عبر تمكين الآخرين من تحقيق ذواتهم". إنها عملية "ازدهار متبادل".


3.  الكلمة السحرية: "الحب" (Agape):

    ما الذي يربط فرقة الجاز هذه؟ إنه "الحب". ليس الحب الرومانسي (Eros)، بل "الأغابي" (Agape)؛ الحب كـ "عطاء" و "ممارسة" و "رعاية" متبادلة. معنى الحياة هو أن تعيش من أجل الآخرين، وبذلك، وفقط بذلك، تجد نفسك.






  (الحجة) الأول: ضد "المعنى" كشعور فردي


 "فكرة أن 'كل فرد يخلق معناه الخاص' هي فكرة مريحة ولكنها كاذبة. إنها تخلط بين 'المعنى' و 'الشعور بالرضا'. أن أقول إن حياتي ذات معنى لأني 'قررت' ذلك، يشبه أن أقول إنني كوميديان عظيم لأنني أضحك على نكاتي الخاصة. المعنى يجب أن يكون له أساس أكثر صلابة من مجرد الإرادة الفردية. إنه شيء متجذر في الواقع وفي طبيعتنا ككائنات."


    هذا هو هجوم إيجلتون على "الذاتية" المطلقة. إنه يرفض أن يكون "المعنى" مجرد حالة نفسية (Psychological State). إذا كان المعنى مجرد "قرار"، فهو يفقد قيمته. يجب أن يكون المعنى "موضوعياً" إلى حد ما، مرتبطاً بـ "كيف" نعيش حياتنا فعلاً، وليس "بماذا" نشعر حيالها. إنه ينقل المعنى من عالم "الشعور" إلى عالم "الفعل".


 (الحجة) الثاني: ضد "السعادة" كهدف


 "يمكن لحياة أن تكون ذات معنى عميق، ومع ذلك تكون مليئة بالفشل والمعاناة... إن اختزال معنى الحياة في 'السعادة' هو أسوأ ما قدمته لنا الثقافة الاستهلاكية. إنه يحول الحياة إلى مشروع لإدارة الذات، بدلاً من كونها مغامرة أخلاقية. آباء الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة قد لا يشعرون بـ'السعادة' كل يوم، لكن حياتهم قد تكون أكثر معنى من حياة مليونير يلهو على يخته."


    هنا يفصل إيجلتون ببراعة بين "المعنى" و "السعادة". المعنى يتعلق بـ "القيمة" و "الغرض" و "تحقيق الذات" (بالمعنى الأرسطي)، بينما السعادة هي شعور عابر. الحياة ذات المعنى هي التي تواجه "المأساة" و "الفشل" ولا تنهار، بل تجد قيمتها في "كيفية" مواجهتها لهذه التحديات، وغالباً ما يكون ذلك عبر الالتزام بشيء أعظم من الذات.


 (الحجة) الثالث: استعارة فرقة الجاز (الخلاصة)


 "معنى الحياة ليس 'شيئاً' منعزلاً كـ 'كأس مقدسة' نجدها بعد بحث طويل. إنه يكمن في 'نوعية' الحياة التي نعيشها. تخيل فرقة 'جاز'... كل عازف يحقق ذاته ويبرز مهارته الفردية، لكنه لا يفعل ذلك إلا 'من خلال' الاستماع والتناغم مع الآخرين... لا يوجد 'قائد' واحد يملي اللحن، بل هناك 'ازدهار متبادل'. المعنى هو أن نعيش بطريقة تجعلنا نحقق ذواتنا عبر تمكين الآخرين من تحقيق ذواتهم... وهذا ما نسميه 'الحب'."


    هذه هي "الإجابة" الإيجلتونية. إنها رائعة لأنها تحل التناقض الظاهري بين "الفرد" و "الجماعة".

    ليست ذوباناً في الجماعة (كالشمولية): فكل عازف له "صوته" الفريد.

    وليست أنانية فردية (كالرأسمالية): فصوته لا معنى له إلا "مع" الآخرين.

     المعنى "علائقي" (Relational) بامتياز. إنه "ممارسة" يومية من الأخذ والعطاء، والإبداع المتبادل.




 (المعنى كـ سياسة وأخلاق)

في النهاية، ينجح تيري إيجلتون في إعادة سؤال "معنى الحياة" من سماء الفلسفة المجردة إلى أرض الواقع.

إجابته ليست ميتافيزيقية، بل هي "أخلاقية" و "سياسية". إذا كان المعنى هو "الازدهار المتبادل" (فرقة الجاز)، فهذا يعني أن أي نظام سياسي أو اقتصادي يمنع الناس من "الازدهار" (كالفقر، الاستغلال، الظلم) هو نظام "بلا معنى" ويجب محاربته.

"معنى الحياة" عند إيجلتون ليس شيئاً تجده وأنت تتأمل في غرفتك، بل هو شيء "تصنعه" مع الآخرين في الساحة العامة، في علاقات الحب، وفي النضال من أجل العدالة التي تسمح للجميع بـ "العزف".




بناءً على نموذج "فرقة الجاز" الذي قدمه إيجلتون، حيث المعنى هو "الازدهار المتبادل" وكل عازف يجب أن "يستمع ويتناغم" مع الآخرين...


ماذا يحدث لـ "المعنى" في هذا النموذج، عندما يقرر أحد العازفين (أحد أفراد المجتمع) أن يعزف "نشازاً" عن عمد؟ أو عندما يكون أحد العازفين (بسبب ظروف قاهرة) غير قادر أساساً على "العزف" أو "التناغم"؟ هل ينهار "المعنى" للجماعة كلها، أم أن على البقية أن يعزفوا "أقوى" ليغطوا على هذا النشاز؟

تعليقات