"في انتظار جودو" \ صامويل بيكيت
مسرحية "في انتظار جودو" لصامويل بيكيت
تُعد مسرحية "في انتظار جودو" (Waiting for Godot) (1953) تحفة فنية وفلسفية رائدة، ومفتاحاً لـ مسرح العبث. إنها ليست مجرد مسرحية، بل هي تأمل وجودي في صميم الشرط الإنساني: الانتظار. لقد أراد بيكيت أن يُقدم مسرحية تُلخص الحياة، لا الأحداث.
اللوحة السوريالية للانتظار الأبدي
تبدأ المسرحية وتنتهي بالانتظار، حيث نجد شخصيتين هما فلاديمير (ديدي) وإستراغون (غوغو)، ينتظران على طريق ريفي، المكان الوحيد المُتاح، وإلى جوارهما شجرة وحيدة عارية (تُصبح بأوراق قليلة في الفصل الثاني). إن هذا الإطار البصري والزماني المُبهم ليس مجرد ديكور، بل هو تمثيل رمزي للوجود؛ وجود مُجرد من الأثاث الاجتماعي والزمني، وجود معلَّق بين السماء والأرض.
إن هذا العمل لا يدور حول من هو "جودو"، بل حول ماذا يفعل الإنسان في غياب المعنى. إن حالة الانتظار هي الملاذ الأخير ضد الفراغ، والانتظار بالنسبة لهما هو الواجب الوجودي الوحيد الذي يُبقي على خيط حياتهما متصلاً.
تُقسم المسرحية إلى فصلين متطابقين في هيكلهما، وهو التكرار الذي يُبرز المأزق الفلسفي:
المحور الأول: العبث والتكرار (Absurdity and Repetition)
التكرار في المسرحية ليس مجرد تكرار للأحداث، بل هو تكرار للمأزق الوجودي. كل يوم هو نسخة كربونية باهتة من اليوم الذي سبقه، ولا يأتي جودو أبداً.
فلاديمير: "لا أستطيع أن أستمر هكذا."
إستراغون: "هذه هي الكلمات التي تقولها كل صباح."
هذا التبادل القصير هو جوهر العبث الوجودي كما حدده ألبير كامو. العبث هو التناقض الصارخ بين رغبة الإنسان الفطرية في إيجاد معنى وقيمة للكون، وصمت الكون المُطلق عن إجابة. يكرر فلاديمير ويأمل، بينما يكرر إستراغون وييأس، وكلاهما عالق في الدائرة التي لا مفر منها. إنهم يعرفون أن الانتظار عقيم، لكنهم يفتقرون إلى الإرادة الحرة أو الدافع المتبقي لاتخاذ أي قرار آخر (كالانتحار مثلاً).
المحور الثاني: الهوية والذاكرة والنسيان (Identity and Oblivion)
الشخصيتان تعانيان من ضعف حاد في الذاكرة. لا يتذكران ما حدث بالأمس بوضوح، ولا يتذكران لقاءهما ببوزو ولاكي في اليوم السابق.
إستراغون: "دائماً نجد شيئاً ما، أليس كذلك، ديدي، كي نشعر بأننا عشنا؟"
فلاديمير: "نعم، نعم، دائماً هناك شيء. في اللحظة التي نتوقف فيها عن العيش، نصبح غير موجودين."
إن ضعف الذاكرة هنا هو آلية دفاعية نفسية ضد ألم الماضي وفراغ الحاضر. عدم تذكر الأمس يعني عدم الاضطرار لتحمل عبء تكرار اليوم. ولكن هذا النسيان يؤدي إلى تآكل الهوية. هم بحاجة إلى الآخر لتأكيد وجودهم (فلاديمير يُذكر إستراغون، وإستراغون يُذكر فلاديمير). إنهم يكتسبون معنى وجودهم بالتفاعل البيني، لا بالاعتماد على ذواتهم.
المحور الثالث: بوزو ولاكي: ديناميكية السلطة والعبودية
يُمثل بوزو ولاكي ثنائياً يُجسد العلاقات البشرية القائمة على الاستغلال والقسوة. بوزو يمتلك لاكي جسدياً وذهنياً.
لاكي (في مونولوجه):
"...فيما يخص عمل الخالق من أجل إنقاص الأسباب، ولسوء الحظ دون الانتباه إلى النتيجة..." (جزء من المونولوج المطول والعبثي)
يُمثل بوزو ولاكي نموذجاً للعلاقات الدنيوية التي يخلقها غياب جودو.
بوزو: هو الإنسان المنغمس في اللحظة الراهنة، يتظاهر بالمعرفة والسيطرة، ولكنه في الفصل الثاني يصبح أعمى وعاجزاً، مما يرمز إلى أن كل سلطة بشرية هي زائلة وعابرة.
لاكي: يُمثل الفكر المُقيّد والمُستغل. مونولوجه العبثي هو هجوم على كل البنى الفلسفية واللاهوتية والاجتماعية التي سادت الغرب. كلماته لا تشكل معنى، بل هي تفريغ صوتي لكمية هائلة من المعلومات غير المترابطة، مما يُشير إلى تفكك المعنى في العصر الحديث.
المحور الرابع: الانتحار كخيار وجودي مُؤجَّل
يُناقش فلاديمير وإستراغون الانتحار مراراً، كحل جذري لإنهاء الانتظار.
فلاديمير: "دعنا نشنق أنفسنا على الفور."
إستراغون: "هذا سيمنعنا من الذهاب لرؤية جودو غداً."
فلاديمير: "صحيح. يجب أن نكون حذرين."
هذا المقطع هو الأكثر سخرية وعمقاً. الانتحار هو الفعل الأكثر جذرية في الفلسفة الوجودية (إنهاء الاختيار). لكن هنا، يتم تأجيله بسبب "جودو". الانتظار ليس مجرد فعل، بل أصبح تبريراً لوجودهما ومنعاً لهما من ممارسة حريتهما الحقيقية (التي قد تكون الإنهاء). الخوف من أن جودو قد يأتي بعد انتحارهما هو ما يُبقيان على قيد الحياة. إنهم يفضلون المأساة المؤجلة على اليقين النهائي.
جمالية الفشل
تُقدم "في انتظار جودو" ليس فقط صورة للعبث، بل احتفالاً بالحياة رغم العبث. إن فشل الشخصيات في المغادرة هو نجاحها في الصمود. في غياب الغاية (جودو)، يصبح الرفقة الإنسانية هي المعنى الوحيد المتبقي. إنهم يكملون بعضهم البعض، ويسخرون من بعضهم البعض، ويتبادلون القبعات، ويمررون الوقت معاً، خوفاً من الصمت المُريع الذي يُهدد وجودهم الفردي.
المسرحية تنتهي، ويُعاد مشهد البداية: فلاديمير وإستراغون يُقرران الذهاب، ولكنهما لا يتحركان. هذا الجمود الأخير هو الخلاصة المأساوية والجمالية للعمل: الإنسان مُحكوم عليه بأن يبقى حيث هو، وينتظر، وأن يملأ هذا الانتظار بالأفعال العبثية، حتى وإن كان يعلم أن ما ينتظره لن يأتي.
إذا افترضنا أن جودو هو المعنى أو الهدف الذي تبحث عنه البشرية، فهل تعتقد أن وصوله كان سيُنهي حالة العبث لديهما، أم أن بيكيت يُلمح إلى أن المعنى الخارجي لن يحل المشكلة، وأن العبث الحقيقي يكمن في طبيعة الوجود البشري نفسه، حتى لو تحققت الآمال؟

تعليقات
إرسال تعليق