"انفعالات النفس" \ رينيه ديكارت
جسر ديكارت الأخير بين الفكر والآلة
يُعد كتاب "انفعالات النفس"، الذي نُشر عام 1649، بمثابة الوصية الفلسفية لأبي الفلسفة الحديثة، رينيه ديكارت. لم يكن هذا الكتاب مجرد دراسة في علم النفس، بل كان محاولته الأكثر جرأة وتفصيلاً لحل المعضلة التي خلقها هو بنفسه: كيف يمكن لـ "نفسٍ" (جوهر مفكر غير مادي) أن تتفاعل وتتأثر بـ "جسدٍ" (جوهر ممتد مادي)؟
بعد أن قضى ديكارت حياته وهو يؤسس لثنائية صارمة تفصل بين الفكر والمادة ("الكوجيتو" أو "أنا أفكر، إذن أنا موجود")، وجد نفسه في نهاية مطافه الفكري مضطراً للإجابة على سؤال الأميرة إليزابيث من بوهيميا: كيف يمكن لهذا "الشبح" (النفس) أن يحرك "الآلة" (الجسد)؟ هذا الكتاب هو إجابته. إنه ليس مجرد تحليل للعواطف، بل هو خريطة "ميكانيكية-نفسية" للإنسان، ومحاولة جبارة لمد جسر فوق الهوة العميقة بين العقل والواقع المادي.
تشريح الانفعال البشري:
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام رئيسية، يقدم فيها ديكارت نموذجاً فسيولوجياً ونفسياً وأخلاقياً لفهم الانفعالات.
1. المشكلة العظمى: ثنائية النفس والجسد
يبدأ ديكارت من مسلمته الأساسية: الإنسان مركب من جوهرين مختلفين تماماً:
النفس (Res Cogitans): جوهر مفكر، غير مادي، غير ممتد في المكان، وظيفته الوحيدة هي "التفكير" (الإرادة، الفهم، التخيل، الشعور).
الجسد (Res Extensa): جوهر ممتد، مادي بحت، يعمل كآلة معقدة تخضع لقوانين الفيزياء والميكانيكا.
المشكلة هي أننا نختبر يومياً أن النفس تؤثر في الجسد (أنا "أريد" أن أرفع يدي، فترتفع) والجسد يؤثر في النفس (يجرح جسدي، فـ "أشعر" بالألم). كيف يحدث هذا الاتصال؟
2. الحل الميكانيكي: "الأرواح الحيوانية" والغدة الصنوبرية
هنا يقدم ديكارت نظريته الفسيولوجية الشهيرة:
الأرواح الحيوانية (Animal Spirits): لا يقصد بها أشباحاً، بل هي "جسيمات دقيقة جداً" من الدم، سريعة الحركة كـ "لهب خفيف ونقي". تنتقل هذه الأرواح عبر الأعصاب (التي تصورها كأنابيب) لتسبب حركة العضلات.
الغدة الصنوبرية (Pineal Gland): يختار ديكارت هذه الغدة الصغيرة في وسط الدماغ لسبب محدد: إنها، حسب اعتقاده، الجزء الوحيد في الدماغ الذي لا ينقسم إلى نصفين، وبالتالي هي المكان الوحيد الذي يمكن أن تلتقي فيه "وحدة" النفس مع الجسد.
كيف يعمل النظام؟
1. تتحرك "الأرواح الحيوانية" في الجسد بناءً على مؤثرات حسية (مثلاً، رؤية حيوان مفترس).
2. تضغط هذه الأرواح على الغدة الصنوبرية بطريقة معينة.
3. هذا الضغط المادي على الغدة "يتسبب" في أن "تشعر" النفس بانفعال معين (مثل الخوف).
4. في المقابل، عندما "تريد" النفس شيئاً، فإنها (بشكل غامض) تحرك الغدة الصنوبرية، التي بدورها توجه "الأرواح الحيوانية" إلى العضلات المناسبة لتنفيذ الفعل (مثل الهرب).
3. تعريف الانفعال: ما "يحدث" للنفس
يميز ديكارت بذكاء بين "أفعال" النفس و"انفعالاتها":
الأفعال (Actions/Volitions): هي إرادتنا. إنها تنبع من "داخل" النفس (مثل قرار قراءة هذا الملخص). نحن "الفاعل".
الانفعالات (Passions/Perceptions): هي كل ما "يحدث" للنفس من "الخارج". هي "تُفرض" على النفس. وأهم مصدر لهذه الانفعالات هو الجسد.
الانفعال، إذن، هو "إدراك" النفس للتغيرات التي تحدث في جسدها بسبب حركة الأرواح الحيوانية.
4. الانفعالات الستة الأولية
يرى ديكارت أن كل بحر العواطف البشرية المعقد ينبع من ستة انفعالات "أولية" (Primitive Passions) فقط:
1. التعجّب (Wonder): هو الانفعال الأول والأكثر فلسفية. إنه رد الفعل الفوري على شيء جديد أو غير مألوف. إنه انفعال "معرفي" بحت لأنه لا يتعلق بالخير أو الشر، بل فقط بالجدة (Novelty).
2. الحب (Love): الانجذاب الروحي نحو ما ندركه كـ "خير" (نافع لنا).
3. الكراهية (Hatred): النفور الروحي مما ندركه كـ "شر" (ضار لنا).
4. الرغبة (Desire): التطلع المستقبلي للحصول على الخير أو تجنب الشر.
5. الفرح (Joy): التمتع الحاضر بالخير الذي نملكه.
6. الحزن (Sadness): الألم الحاضر من الشر أو من فقدان الخير.
كل انفعال آخر (مثل الغضب، الخوف، الندم، الكبرياء) هو مجرد مزيج أو نوع من هذه الستة.
5. وظيفة الانفعالات: ليست شراً، بل إشارات
خلافاً للرواقيين الذين دعوا إلى استئصال الانفعالات، يرى ديكارت أن الانفعالات "كلها جيدة في جوهرها".
وظيفتها الأساسية هي حماية الجسد. إنها نظام إنذار مبكر تخبر النفس بما هو نافع أو ضار للآلة الجسدية، وتحثها على اتخاذ الإجراء المناسب. الخوف ليس سيئاً، بل هو إشارة ضرورية تدفعك للهرب من الخطر.
المشكلة ليست في الانفعالات نفسها، بل في "سوء استخدامها أو زيادتها عن الحد".
1. عن تعريف الانفعال (المادة 27)
"إن الانفعالات هي إدراكات أو أحاسيس أو اضطرابات للنفس، ننسبها إلى النفس بشكل خاص، وهي معلولة (يسببها) وتحفظها وتقويها حركة معينة للأرواح [الحيوانية]."
هذا هو التعريف التقني والمحوري للكتاب. يوضح هذا الاقتباس أن الانفعالات ليست أفكاراً نخلقها، بل هي أحداث "نعانيها". إنها تجربة "نفسية" سببها "فيزيائي" بحت (حركة الأرواح الحيوانية). هذا هو جوهر العلاقة النفسية-الجسدية (Psycho-physical).
عن سيطرة الإرادة (المادة 41 و 50)
"إن الإرادة حرّة بطبيعتها، حتى إنه لا يمكن إكراهها أبداً... ولكن، ليس لديها القدرة على إثارة الانفعالات أو قمعها بشكل مباشر... إن أقوى النفوس هي تلك التي تستطيع إرادتها أن تنتصر بسهولة أكبر على الانفعالات وأن توقف حركات الجسد التي تصاحبها."
هذا هو لب الأخلاق الديكارتية. يوضح ديكارت أنك لا تستطيع أن "تقرر" ألا تشعر بالخوف أو الغضب (لأنها ردود فعل جسدية). لكن الإرادة (النفس) يمكنها أن "تقرر" ألا تتصرف بناءً على هذا الغضب. قوتك لا تكمن في عدم الشعور، بل في السيطرة على "الفعل" الناتج عن الشعور. العقل لا يقمع الانفعال، بل يوجه السلوك.
عن الفضيلة العليا: النبل (المادة 153)
"أعتقد أن النبل الحقيقي ... يتكون، من جهة، في أن الإنسان يعرف أنه لا يوجد شيء ينتمي إليه حقاً سوى حرية التصرف بإرادته... ومن جهة أخرى، أن يشعر في نفسه بتصميم ثابت وحازم على استخدام هذه الحرية بشكل جيد، أي ألا تنقصه الإرادة أبداً للقيام بجميع الأشياء التي يرى أنها الأفضل."
هذا هو تتويج الكتاب. الفضيلة العليا عند ديكارت ليست التواضع أو التقوى، بل هي "النبل" أو "شهامة النفس". الإنسان النبيل هو الذي يدرك أن قيمته الحقيقية لا تكمن في جماله أو ثروته أو ذكائه (لأنها معطيات)، بل في الشيء الوحيد الذي يملكه حقاً: إرادته الحرة، وقراره الثابت باستخدام هذه الإرادة لاتباع "العقل" واختيار الأفضل دائماً، بغض النظر عن الانفعالات التي تسيطر عليه.
الإنسان كآلة نبيلة
كتاب "انفعالات النفس" هو عمل ثوري، فهو أول محاولة جادة لتقديم "فيزياء" للعواطف. لقد أنزل ديكارت الانفعالات من سماء اللاهوت والأخلاق الغامضة إلى أرض الميكانيكا والفسيولوجيا.
على الرغم من أن علمه كان خاطئاً (نظرية الغدة الصنوبرية والأرواح الحيوانية تم دحضها بالكامل)، إلا أن منهجه هو الذي غيّر العالم. لقد أسس لمشروع علم النفس الحديث وعلم الأعصاب، القائم على فكرة أن كل حالة عقلية (شعور) لها أساس مادي (عصبي).
في النهاية، يقدم لنا ديكارت صورة للإنسان ككائن هجين مأساوي ونبيل في آن واحد: "آلة" جسدية تحكمها الانفعالات، تسكنها "روح" حرة تمتلك القدرة على السيطرة على هذه الآلة بالعقل والإرادة.
يطرح ديكارت فكرة أن الإرادة الحرة (النفس) يمكنها السيطرة على الأفعال الناتجة عن الانفعالات (الجسد). لكن في ضوء علم الأعصاب الحديث، الذي يميل إلى رؤية "الإرادة" نفسها كعملية دماغية مادية:
هل ما زال هناك مكان لـ "إرادة حرة" ديكارتية مستقلة عن الجسد، أم أن "سيطرتنا" المزعومة على انفعالاتنا هي مجرد وهم، أو تفاعل كيميائي أكثر تعقيداً في "الآلة" نفسها؟

تعليقات
إرسال تعليق