عبء المنتصف: سيكولوجية السعادة بين قمة النجاح وقاع القناعة

 



في مسرح الحياة الإنسانية، يُعرض علينا نصٌ مألوف: قصة صعود الناجح إلى القمة، وقصة هبوط الفاشل إلى الحضيض. نحتفي بالأولى ونرثي للثانية، ونفترض أن السعادة حكرٌ على المنتصر، وأن الشقاء مصير المنهزم. لكن هذه الثنائية المبسطة تتجاهل حقيقة أكثر تعقيدًا وألمًا؛ فهي تتجاهل ذلك الفضاء الشاسع والمكتظ بالأرواح العالقة في "المنتصف". هؤلاء ليسوا ناجحين بما يكفي لتذوق نشوة تحقيق الذات، وليسوا فاشلين بما يكفي للتسلح بلامبالاة من لا يملك شيئًا ليخسره. إنهم يعيشون في خضم الطموحات المعلقة والآمال المؤجلة، حيث تتحول الأحلام إلى عبء، ويتحول السعي إلى مصدر دائم للقلق والاكتئاب. هذا الموضوع هو محاولة لتشريح هذه الحالات الثلاث -النجاح، "الفشل"، وما بينهما- عبر عدسات متعددة التخصصات، من علم النفس والفلسفة إلى علم الاجتماع، لفهم الديناميكيات الخفية التي تحكم سعادتنا وشقاءنا.


نشوة القمة: سيكولوجية تحقيق الذات


إن سعادة الإنسان الناجح هي أكثر من مجرد إشباع مادي؛ إنها حالة من التناغم النفسي العميق. يصفها عالم النفس أبراهام ماسلو في هرمه الشهير بأنها "تحقيق الذات" (Self-Actualization)، وهي الحاجة الإنسانية العليا للوصول إلى أقصى إمكانات الفرد. لا يتعلق الأمر بالوصول إلى وجهة نهائية، بل بالشعور المستمر بالنمو والإنجاز.



يقول ماسلو في كتابه "الدافعية والشخصية" (Motivation and Personality): 

"ما يمكن أن يكونه الإنسان، يجب أن يكونه. هذه الحاجة يمكن أن نسميها تحقيق الذات."

 يشير ماسلو هنا إلى أن السعادة الحقيقية للناجح تنبع من محاذاة واقعه مع إمكاناته الكامنة. النجاح ليس مجرد لقب أو ثروة، بل هو استجابة لنداء داخلي عميق بأن يصبح المرء أفضل نسخة ممكنة من نفسه. هذا الشعور بالهدف والإنجاز يغمر الدماغ بالناقلات العصبية المرتبطة بالمكافأة مثل الدوبامين، مما يعزز الشعور بالرضا والسيطرة.


فلسفيًا، يتردد صدى هذا المفهوم في فكرة "اليودايمونيا" (Eudaimonia) عند أرسطو، والتي تعني "الازدهار الإنساني". السعادة الأرسطية ليست متعة لحظية، بل هي نتاج حياة كاملة تُعاش بفضيلة وتفوق، حيث يستخدم الإنسان عقله وقدراته بأفضل طريقة ممكنة. الناجح، من هذا المنظور، هو فنان صاغ من حياته تحفة فنية.


سكينة القاع: حكمة التخلي وتجنب الألم


على الطرف الآخر، توجد سعادة قد تبدو متناقضة، وهي سعادة من تخلّى عن سباق الطموح. قد يصفهم المجتمع بـ"الفاشلين"، لكنهم في الحقيقة قد توصلوا إلى شكل من أشكال الحكمة. إنها سعادة مبنية على التحرر من القلق. الشخص الذي لا يملك آمالاً كبيرة لا يخشى خيبات الأمل.



في الفلسفة الرواقية، يقول إبكتيتوس في "المختصر" (Enchiridion): "لا تطلب أن تجري الحوادث كما تشاء، بل شِئْها أن تجري كما تجري، وحينئذٍ تسير حياتك سيراً هنيئاً."

هذا الاقتباس هو جوهر السعادة الرواقية. الشخص الذي يتوقف عن مطاردة النجاح وفقًا للمعايير المجتمعية، ويقبل واقعه، يحرر نفسه من مصدر رئيسي للمعاناة. من منظور علم النفس، هذا يسمى "التكيف التحولي"، حيث يعيد الفرد تعريف أهدافه لتتناسب مع ظروفه، مما يقلل من التوتر النفسي ويؤدي إلى حالة من الطمأنينة (Ataraxia). سعادته لا تكمن في الحصول على ما يريد، بل في الرضا بما لديه.


جحيم المنتصف: قلق الوجود وعبء الطموح


هنا تكمن المأساة الحقيقية منطقة الوسط ليست حلاً وسطاً، بل هي ساحة صراع نفسي عنيف. من يقف هنا هو إنسان يرى القمة بوضوح، ويشعر بقوة جاذبيتها، لكنه مقيد بسلاسل الواقع. إنه الشخص الذي يؤمن بمقولات النجاح ولكنه لم يحققه.


 يصف الفيلسوف الوجودي سورين كيركغور هذه الحالة بدقة في كتابه "مرض حتى الموت" (The Sickness Unto Death) عندما يتحدث عن اليأس: "اليأس هو مرض الروح، الأنا، ويمكن أن يأخذ ثلاثة أشكال: أن لا تكون واعياً بوجود ذات لديك (يأس الجهل)، أن لا ترغب في أن تكون ذاتك (يأس الضعف)، أو أن ترغب في أن تكون ذاتك (يأس التحدي)."

 الشخص في المنتصف يعيش الشكلين الأخيرين من اليأس. إنه يائس لأنه لا يريد أن يكون ذاته الحالية المليئة بالقصور والإحباط، وفي نفس الوقت يائس لأنه يريد بشدة أن يحقق ذاته المثالية ولكنه عاجز. هذا الصراع يمزق الروح ويؤدي إلى الاكتئاب.



من منظور علم الاجتماع: يصف عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم حالة "الأنومي" (Anomie)، وهي شعور بالضياع واللامعيارية يحدث عندما تنهار المعايير الاجتماعية التي تربط الفرد بالمجتمع. في مجتمعاتنا الحديثة القائمة على "الميريتوقراطية" (الجدارة)، يُقال للجميع أنهم يستطيعون النجاح إذا عملوا بجد. وبالتالي، فإن من يفشل في تحقيق النجاح لا يلوم النظام، بل يلوم نفسه، مما يؤدي إلى شعور عميق بالخزي والعجز. الشخص في المنتصف هو الضحية المثالية لهذه الأيديولوجية؛ فهو يؤمن بالقواعد لكنه لا يستطيع الفوز باللعبة.


من منظور علم الأعصاب: الطموح غير المحقق هو مصدر للتوتر المزمن. السعي المستمر نحو هدف بعيد المنال يبقي الجهاز العصبي في حالة تأهب دائم (استجابة الكر والفر). هذا يؤدي إلى إفراز مستمر لهرمون الكورتيزول، الذي يرتبط ارتفاع مستوياته المزمن بالاكتئاب، والقلق، وتدهور الوظائف المعرفية. الدماغ الذي يتوقع مكافأة (النجاح) ولا يحصل عليها أبدًا يدخل في حلقة مفرغة من الإحباط الكيميائي.



إن التحليل المتعمق يكشف أن المشكلة لا تكمن في النجاح أو الفشل بحد ذاتهما، بل في التعريفات الصارمة والمجتمعية التي نتبناها لهما. لقد حصرنا السعادة في قمة جبل شاهق، والشقاء في وادٍ سحيق، وتجاهلنا أن الحياة يمكن أن تُعاش بشكل غني ومُرضٍ على السهول والتلال الواقعة بينهما. الناجح قد يصبح سجينًا لنجاحه، خائفًا من فقدانه. ومن يراه المجتمع "فاشلاً" قد يجد حرية لم يكن ليجدها في قيود الطموح. أما من يعاني في المنتصف، فربما تكون معاناته هي دعوة لإعادة فحص قيمه وأهدافه، والبحث عن معنى خارج ثنائية النجاح والفشل التي يفرضها المجتمع.


 لعل الخروج من "عبء المنتصف" لا يكمن في الصعود إلى القمة أو القبول بالبقاء في القاع، بل في هدم هذه الخريطة العمودية للحياة من الأساس. السعادة قد لا تكون وجهة على الإطلاق، بل هي طريقة للسفر، تُكتشف في اللحظات الصغيرة من التواصل الإنساني، والشغف الحقيقي، وقبول الذات بكل تناقضاتها، بغض النظر عن موقعنا على سلم الإنجاز المجتمعي.



إذا كانت السعادة الحقيقية لا تكمن في تحقيق النجاح وفقًا لمعايير خارجية، ولا في التخلي الكامل عن الطموح، فكيف يمكن للفرد أن يبني لنفسه "معنى" خاصًا في خضم الضغوط المجتمعية، يكون بمثابة مرساة تحميه من يأس المنتصف؟

تعليقات