اليأس الوجودي: حين يصبح الإنسان وحيدًا ومسؤولًا عن خلق معناه

 






"لا يستطيع الإنسان أن يمارس إرادته ما لم يُدرك أوّلاً أنّه لا يمكنه أن يعوِّل على شيء سوى نفسه: أنّه وحيد، منفيّ إلى هذه الأرض، في مواجهة مسؤولياته اللامتناهية، بلا عون ولا سند، وبلا غاية سوى تلك التي سيضعها هو لنفسه، وبلا مصير سوى الذي سيصوغه بيديه على هذه الأرض. إنّ هذه القناعة، هذا الإدراك الحدسي لوضعه، هو ما نسمّيه اليأس. وكما ترى، فهو ليس انفعالاً رومانسياً جميلاً، بل وعي صارم وواضح بجوهر الحالة الإنسانية. وكما أنّ القلق لا ينفصل عن الإحساس بالمسؤولية، فإنّ اليأس لا ينفصل عن الإرادة. ومع اليأس يبدأ التفاؤل الحقّ: تفاؤل الإنسان الذي لا يتوقّع شيئاً، والذي يعلم أنّه لا يملك أيّ حقّ ولا ينتظره أيّ عطف، والذي يجد بهجته في أن يعوِّل على نفسه وحده، وأن يعمل وحده من أجل الخير العام."

 جان بول سارتر، من كتاب "الكتابات الأساسية"


يمثل هذا المقطع للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر جوهر فلسفته الوجودية، حيث يعيد تعريف مفاهيم كلاسيكية كـ"اليأس" و"التفاؤل" ليصبها في قالب فلسفي يضع الإنسان في مركز الكون، وحيدًا حرًا ومسؤولًا مسؤولية مطلقة عن وجوده وماهيته.


 الوجود يسبق الماهية

لفهم عمق هذا النص، لا بد من الانطلاق من المبدأ الأساسي للوجودية السارترية: "الوجود يسبق الماهية". يعني هذا أن الإنسان يُلقى به في هذا العالم أولاً، يوجد، ثم بعد ذلك، ومن خلال اختياراته وأفعاله، يقوم بتعريف نفسه وتشكيل "ماهيته" أو جوهره. على عكس الأدوات المصنعة التي تُصمَّم لغاية محددة (فماهية السكين تسبق وجوده)، يأتي الإنسان إلى العالم بلا غاية مسبقة، بلا طبيعة بشرية ثابتة، وبلا إله يرسم له طريقه. إنه مشروع مفتوح، يصنع نفسه بنفسه.

 اليأس ليس سلبية بل وعي بالحقيقة


الوحدة والمسؤولية اللامتناهية:

يبدأ سارتر بتأكيد حقيقة أن الإنسان "وحيد" و"منفيّ". هذه ليست دعوة للتشاؤم، بل هي توصيف للحالة الإنسانية بمجرد نزع الأوهام والأعذار. فالإنسان، في منظور سارتر، لا يمكنه الاتكاء على قوة خارجية أو حتمية تاريخية أو اجتماعية لتبرير أفعاله أو تحديد مصيره. هو وحده من يتحمل عبء اختياراته. هذه المسؤولية "لامتناهية" لأنه في كل مرة يختار فيها الإنسان لنفسه، فهو بطريقة ما يختار للبشرية جمعاء، إذ يقدم بنموذجه صورة لما يمكن أن يكون عليه الإنسان. هذا الإحمل الثقيل هو ما يولد "القلق" الوجودي.


اليأس كإدراك صارم:

يعرّف سارتر "اليأس" ليس كانفعال عاطفي بالمعنى الشائع، بل كـ"وعي صارم وواضح بجوهر الحالة الإنسانية". اليأس هنا هو التخلي عن كل أمل في العون الخارجي. هو إدراك أنه لا توجد ضمانات، ولا أعذار، وأن الإنسان لا يملك "أي حق" فطري، ولا ينتظره أي "عطف" كوني. إنه اللحظة التي يواجه فيها الإنسان حريته المطلقة وجهاً لوجه، بكل ما فيها من إمكانات مرعبة ومُلهِمة. هذا اليأس، بهذا المعنى، هو شرط أساسي لممارسة "الإرادة الحقة"، لأنه يحرر الإنسان من الاعتمادية وانتظار ما لن يأتي.


من اليأس إلى التفاؤل الحق:

المفارقة السارترية تكمن في أن هذا اليأس هو نقطة الانطلاق لـ"التفاؤل الحق". إنه ليس تفاؤلًا ساذجًا مبنيًا على أوهام، بل تفاؤل الإنسان الذي، لأنه لا يتوقع شيئًا، يصبح حرًا في أن يفعل كل شيء. بهجته لا تأتي من وعود خارجية، بل من "أن يعوّل على نفسه وحده، وأن يعمل وحده من أجل الخير العام". هذا التفاؤل نابع من قوة الإرادة التي، بعد أن تخلصت من الأمل الزائف، أصبحت قادرة على الفعل الخالص، وعلى خلق القيم والمعنى في عالم خالٍ منهما أصلاً.



تتردد أصداء هذه الفكرة في مختلف كتابات سارتر، مما يؤكد مركزيتها في فكره:


 "الوجودية مذهب إنساني" (1946):

 "الإنسان محكوم عليه بأن يكون حراً. محكوم، لأنه لم يخلق نفسه، وهو مع ذلك حر، لأنه متى أُلقي به في العالم، فإنه مسؤول عن كل ما يفعله."

    هذا الاقتباس يوضح فكرة "النفي" أو "الإلقاء" في العالم والمسؤولية المطلقة المترتبة على هذه الحرية القسرية.


أيضًا من "الوجودية مذهب إنساني":

"لا وجود لغير الواقع. [...] فالإنسان ليس سوى مشروعه، وهو لا يوجد إلا بقدر ما يحقق ذاته، فهو إذن ليس أكثر من مجموع أفعاله، لا شيء سوى حياته."

    هنا، يربط سارتر بشكل مباشر بين وجود الإنسان وأفعاله، نافيًا أي ماهية خفية أو قدرات غير محققة. أنت ما تفعله، وهذا هو أساس التفاؤل العملي الذي يدعو إليه.


من مسرحية "الذباب" (1943):

   "على هذه الأرض... لا عذر لي... أنا مدان بأن لا يكون لي قانون آخر سوى قانوني. [...] أنا حريتي."

    تجسد هذه الكلمات على لسان شخصية أوريست، فكرة خلق الإنسان لقيمه الخاصة في غياب أي سلطة عليا، وهو ما يتوافق تمامًا مع فكرة "وضع الغاية لنفسه" المذكورة في النص الرئيسي.



في نهاية المطاف، يقدم لنا جان بول سارتر رؤية قد تبدو قاسية للوهلة الأولى، لكنها في جوهرها تمجيد للإمكانات البشرية. عبر تجريد الإنسان من كل سند خارجي، يمنحه سارتر أعظم قوة ممكنة: قوة خلق الذات والعالم من حوله. اليأس السارتري ليس دعوة إلى الشلل والعدمية، بل هو دعوة إلى الصحوة؛ إدراك صارم بأننا وحدنا في ساحة الوجود، وأن كل معنى وقيمة وهدف لن يوجد ما لم نصنعه نحن بأنفسنا، وبأيدينا، على هذه الأرض. إنها دعوة لتحمل عبء حريتنا، وفي هذا العبء تكمن عظمتنا وبهجتنا الحقيقية.




إذا كان الإنسان هو حقًا الكائن الذي يصنع جوهره بنفسه، بلا أي غاية مسبقة، فهل يعني هذا أن أي اختيار يختاره، مهما كان، هو اختيار صحيح طالما أنه نابع من حريته المطلقة؟ أم أن هناك مسؤولية تفرض عليه حدودًا معينة في اختياراته؟


تعليقات