"صديقنا المشترك" \ تشارلز ديكنز

 





تُعد رواية "صديقنا المشترك" (Our Mutual Friend)، التي نُشرت بين عامي 1864 و1865، العمل الأخير الذي أكمله تشارلز ديكنز. إنها ليست مجرد رواية، بل هي تشريح جراحي دقيق للمجتمع الفيكتوري في لندن، عملٌ يتسم بالقتامة والسخرية والتعقيد، ويُعتبر من أكثر أعمال ديكنز نضجاً وتشاؤماً.


تدور الرواية حول رمزين قويين يطغيان على كل شيء: نهر التايمز وأكوام الغبار (النفايات). النهر هو مصدر الموت (حيث تُنتشل الجثث) ومصدر الحياة (الخلاص والتجدد)، بينما أكوام الغبار، المصدر الحرفي للثروة الهائلة في القصة، هي الرمز الأقوى لديكنز للثروة باعتبارها فساداً أخلاقياً، و"قذارة" مادية وروحية.


تبدأ القصة بوصية غريبة تركها "هارمون" العجوز، وهو رجل بنى ثروته الهائلة من مقاولات جمع "الغبار" (الذي كان في الواقع مزيجاً قيماً من رماد الفحم والنفايات الأخرى). تنص الوصية على أن ابنه المنفصل عنه، جون هارمون، سيرث كل شيء بشرط واحد: أن يتزوج من فتاة لم يلتق بها قط، وهي بيلا ويلفر.


الاختفاء والميراث: أثناء عودة جون هارمون إلى لندن للمطالبة بميراثه، يُعثر على جثة في نهر التايمز، ويتم التعرف عليها (عن طريق الخطأ) على أنها جثة جون. وفقاً للوصية، ينتقل الميراث الآن إلى الموظفين المخلصين والأميين لهارمون العجوز، السيد والسيدة بوفين (يُلقبان بـ "جامعي الغبار الذهبي").


الأقنعة والهويات: جون هارمون لم يمت. لقد نجا من محاولة قتل (حيث قُتل مهاجمه وتم الخلط بين الجثتين). بدلاً من الكشف عن هويته، يقرر جون التخفي. يتخذ لنفسه اسماً جديداً، جون روكسميث، ويتقدم بطلب للعمل كسكرتير لدى السيد بوفين، لكي يتمكن من مراقبة ما سيحدث لثروة والده، والأهم من ذلك، مراقبة شخصية بيلا ويلفر، الفتاة التي كان من المفترض أن يتزوجها.


اختبار بيلا: السيدة بوفين، بقلبها الطيب، تأخذ بيلا ويلفر (التي أصبحت الآن وريثة فقيرة) للعيش معها. بيلا جميلة وذكية، لكنها مهووسة بشكل علني بالمال والمكانة الاجتماعية، وتأسف بمرارة لخسارتها الثروة. يقع "روكسميث" (جون) في حبها رغم عيوبها، ويعرض عليها الزواج، لكنها ترفضه بازدراء لأنه مجرد سكرتير فقير.


خدعة السيد بوفين: لإدراك عمق حب روكسميث لبيلا، ولمساعدة بيلا على اكتشاف ذاتها الحقيقية، يبدأ السيد بوفين في تمثيلية متقنة. يتظاهر بأن الثروة قد أفسدته، ويتحول إلى بخيل طاغية ومرتاب. يبدأ في معاملة سكرتيره "روكسميث" بقسوة بالغة.


الخلاص بالحب: تصل الأمور إلى ذروتها عندما يطرد بوفين "روكسميث" علناً. هذا الفعل يكسر أخيراً هوس بيلا بالمال. في لحظة صحوة أخلاقية، تدافع بشراسة عن روكسميث، وتتخلى عن ثروة بوفين، وتغادر منزله. تختار الفقر والحب، وتتزوج جون روكسميث.


الحبكات الفرعية: بالتوازي، تتبع الرواية ليزي هيكسام، ابنة جامع الجثث من النهر، التي يتنافس على حبها المحامي الأرستقراطي المتردد يوجين رايبورن، والمعلم المهووس والعنيف برادلي هيدستون. ينتهي هذا الصراع بمحاولة هيدستون قتل يوجين وتركه للموت. تنقذ ليزي يوجين، وتتزوجه وهو على فراش الموت (لكنه ينجو)، مما يمنح كلاً منهما الخلاص.


في النهاية، يُكشف عن كل شيء: يُعلن جون روكسميث عن هويته الحقيقية كجون هارمون، وتتم مكافأة بيلا على اختيارها الحب بدلاً من المال. ويُكشف أن "بخل" السيد بوفين كان مجرد تمثيلية لاختبارها.


هذه الرواية هي هجوم ديكنز الأشرس على عبادة المال والزيف الاجتماعي.


المال كـ "غبار" (الفساد المادي): الرمزية المركزية لا يمكن أن تكون أوضح. الثروة التي يتوق إليها الجميع هي حرفياً "قمامة". ديكنز يصرخ بأن السعي وراء المال هو سعي وراء العدم، وهو نشاط ملوث أخلاقياً وجسدياً. المال لا يرفع الناس، بل يدفنهم تحت وطأته، تماماً كما كاد "الغبار" أن يدفن السيد بوفين.


الزيف الاجتماعي (صوت المجتمع): يقدم ديكنز شخصيات مثل "آل فينيرينغ" (Veneerings)، وهم أثرياء جدد لا يملكون أي شيء أصيل. كل شيء في حياتهم "جديد تماماً" (بما في ذلك أصدقاؤهم)، وهم يمثلون "صوت المجتمع" السطحي والمهووس بالمظاهر. إنهم قشرة خارجية بلا مضمون، يمثلون النفاق الذي يراه ديكنز في قلب الطبقات العليا.


الهوية والأقنعة: لا أحد في الرواية هو كما يبدو. جون هارمون يجب أن "يموت" ويصبح "روكسميث" ليجد الحب الحقيقي. السيد بوفين يجب أن يرتدي قناع البخيل الشرير ليقوم بعمل أخلاقي نبيل. بيلا ويلفر تتظاهر بأنها مادية أكثر مما هي عليه في الحقيقة. ديكنز يطرح سؤالاً: هل يمكن للمرء أن يجد ذاته الحقيقية إلا من خلال التخلي عن هويته الاجتماعية المفروضة عليه؟


التجدد والخلاص (النهر): النهر هو مكان الموت الظاهري لجون، ومحاولة قتل يوجين. ولكنه أيضاً مصدر الخلاص. جون "يُبعث" من جديد بهوية جديدة، ويوجين "يُبعث" من جديد بفضل حب ليزي بعد أن انتشلته من حافة الموت. الخلاص لا يأتي من المال (الغبار)، بل من الحب والتضحية الإنسانية.



1.  أكوام الغبار (الثروة كفساد)

المفهوم: إن المصدر الحرفي لثروة "هارمون" هو "أكوام هائلة من الغبار والرماد والقمامة" التي يتم تدويرها.


 هذا هو الاقتباس الأهم في الرواية، وهو ليس كلمات تُقال، بل حقيقة مادية. ديكنز لا يهمس، بل يصرخ بأن المجتمع الفيكتوري يعبد القمامة. المال الذي يحدد المكانة الاجتماعية، والزواج، والقيمة الإنسانية هو في جوهره "غبار" قذر لا قيمة له. عندما يرتدي السيد بوفين قناع البخيل، فإنه لا يمثل شخصاً فاسداً، بل يمثل حقيقة الثروة نفسها. لقد أدرك ديكنز في نهاية حياته أن الرأسمالية الصناعية لم تكن تبني مجداً، بل كانت تبني أكواماً من النفايات البشرية والمادية.


2.  يقظة الحب (الحب ككاشف للحقيقة)

 "بالرغم مما يقال بأن الحب منكوبٌ بالعمى، فإن الحب حارسٌ يقظ." 


 في عالم أعمته أكوام الغبار (المال)، حيث الجميع يرتدون أقنعة (آل فينيرينغ، جون هارمون، السيد بوفين)، يبدو الحب هو الشيء الوحيد الذي يمكنه الرؤية بوضوح. المجتمع "أعمى" عن قيمة جون روكسميث الحقيقية لأنه فقير. لكن حب جون لبيلا "يقظ"، فهو يرى إمكانية الخير فيها تحت قشرتها المادية. والأهم من ذلك، أن حب بيلا النهائي لروكسميث هو ما جعلها "ترى" حقيقة فساد المال (الذي جسده بوفين المزيف). الحب في "صديقنا المشترك" ليس عاطفة عمياء، بل هو الأداة الوحيدة للكشف عن الحقيقة في عالم مزيف.


 مرثية مجتمع غارق في الغبار

"صديقنا المشترك" هي خاتمة معقدة ومرهقة لمسيرة ديكنز المهنية. إنها رواية عن النفايات - النفايات المادية التي تخلق الثروة، والنفايات البشرية التي يتخلص منها المجتمع (الفقراء، المنبوذون). إنه عمل قاتم يُظهر مجتمعاً غارقاً في الزيف لدرجة أن الصدق الوحيد يجب أن يأتي عبر الخداع (خدعة بوفين) والحب المستحيل (زواج يوجين وليزي عبر الطبقات).


في النهاية، يقدم ديكنز بصيصاً من الأمل، لكنه أمل تم انتزاعه بشق الأنفس. الخلاص ممكن، ولكن فقط للأفراد الذين يرفضون عبادة "الغبار" ويختارون الاتصال الإنساني الحقيقي. إنها تحفة فنية مُرة، ونقد لا يزال صداه يتردد بقوة حتى اليوم.


يطرح ديكنز فكرة أن الثروة والمكانة الاجتماعية هي "غبار" وزيف. برأيك، هل لا تزال هذه الفكرة صالحة في مجتمعنا المعاصر الذي تحركه وسائل التواصل الاجتماعي والمظاهر؟ وكيف يمكننا التمييز بين "الغبار" (القيمة الزائفة) و"الحب اليقظ" (القيمة الحقيقية) اليوم؟



تعليقات