البوصلة والخريطة: الحياة بين الأهداف والقيم

 





 وهم الوجهة

في سعينا المحموم لعيش حياة "ناجحة"، غالباً ما نقع في فخ الخلط بين الخريطة والبوصلة. الخريطة هي الأهداف: إنها ترسم لنا وجهات محددة، ونتائج قابلة للقياس، وقمماً نسعى لبلوغها. أن أصبح مديراً، أن أمتلك منزلاً، أن أخسر الوزن، أن أحصل على الشهادة. إنها الـ "ماذا" في حياتنا.


أما البوصلة، فهي القيم: إنها المبادئ الراسخة التي توجه سلوكنا، والإطار الأخلاقي الذي نحكم به على أفعالنا، والاتجاه الذي نشير إليه بغض النظر عن التضاريس. الصدق، الشجاعة، الرحمة، النمو، العدالة. إنها الـ "كيف" والـ "لماذا".


يعيش الكثيرون حياتهم في سباق محموم لجمع "الأهداف" التي رسمها لهم المجتمع أو غرورهم، ليكتشفوا عند خط النهاية فراغاً هائلاً. ما هو الفارق الجوهري بين هذين المسارين، و أيهما "الأروع" والأجدر بأن يكون محوراً للوجود الإنساني.


1. حياة الأهداف: هندسة الإنجاز

الحياة التي تركز على الأهداف هي حياة "موجهة نحو النتائج" (Outcome-Oriented). إنها جذابة للغاية لأنها توفر الوضوح.


مزاياها:


الوضوح والدافع: الهدف الواضح (مثل: "سأدخر 100 ألف دولار") يوفر دافعاً يومياً وخطوات عملية.


القابلية للقياس: النجاح والفشل واضحان. إما أنك حققت الهدف أو لم تفعل.


الشعور بالإنجاز: يوفر تحقيق الأهداف جرعات من الدوبامين والشعور بالرضا الفوري.


مخاطرها:


وهم الوصول (The Arrival Fallacy): هو الاعتقاد الخاطئ بأننا سنكون سعداء "عندما" نحقق الهدف. لكن بمجرد الوصول، يتبخر الشعور، ونبدأ فوراً في البحث عن الهدف التالي. إنها مطاردة لا تنتهي.


الهشاشة أمام الفشل: إذا كانت هويتك مرتبطة بهدفك (أنا "المدير الناجح")، فماذا يحدث إذا فشلت في تحقيقه؟ تنهار الهوية بأكملها.


الفراغ الأخلاقي: التركيز المفرط على "النتيجة" قد يغري بـ "الغاية تبرر الوسيلة". قد تضحي بالصدق (قيمة) للوصول إلى الثروة (هدف).


2. حياة القيم: بوصلة الكينونة

الحياة التي تركز على القيم هي حياة "موجهة نحو العملية" (Process-Oriented). إنها لا تهتم بالوجهة بقدر ما تهتم بـ "كيف" نمشي الطريق.


مزاياها:


الأصالة (Authenticity): قراراتك تنبع من داخلك، لا من ضغوط خارجية. أنت تعيش "متسقاً" مع ذاتك الحقيقية.


المرونة والصمود: الأهداف يمكن أن تتغير (قد تفقد وظيفتك)، لكن القيم ثابتة. إذا كانت قيمتك هي "النمو"، فإن فقدان الوظيفة ليس نهاية، بل فرصة للتعلم (لخدمة القيمة).


السلام الداخلي: لا يوجد "وهم وصول". لا يمكنك "تحقيق" الصدق. يمكنك فقط أن تكون صادقاً. الرضا يأتي من الفعل نفسه، ليس من نتيجته.


تحدياتها:


الغموض: قد تبدو "القيم" مجردة. "عش بالرحمة" أصعب قياساً من "تبرع بألف دولار".


غياب "الانتصارات" الواضحة: لا يوجد خط نهاية واضح للاحتفال به.


 فيكتور فرانكل والحرية المطلقة

لفهم عمق "حياة القيم"، يجب أن ننظر إلى فيكتور فرانكل، الطبيب النفسي النمساوي الذي نجا من الهولوكوست. في معسكرات الاعتقال، تم تجريد السجناء من كل "هدف" يمكن تخيله: الحرية، الصحة، العائلة، الكرامة، وحتى الحياة نفسها. في هذا الفراغ المطلق، اكتشف فرانكل الجوهر الحقيقي للوجود.


 (من كتاب "الإنسان يبحث عن معنى"): "يمكن سلب كل شيء من الإنسان إلا شيئاً واحداً: آخر الحريات الإنسانية؛ وهي أن يختار المرء موقفه في أي مجموعة من الظروف، أن يختار طريقه الخاص. هل كانت الظروف فرصة للسجين لإحداث إنجاز أخلاقي داخلي؟ هل يمكنه في هذه الظروف الصعبة أن يحقق نوعاً من القيمة الروحية؟...


لقد وجدنا معنى لوجودنا حتى في تلك اللحظة الأخيرة قبل الموت. لقد نظرنا بثقة نحو الموت القادم. لقد رأينا أننا، حرفياً، لم يعد لدينا ما نتوقع خسارته من الحياة، باستثناء هذه الفرصة الأخيرة، الفرصة الثمينة لأن نتحمل معاناتنا بطريقة شجاعة. أن نختار كيف نواجه مصيرنا. هذه الحرية الداخلية... لا يمكن لأحد أن ينتزعها منا."


هذا الاقتباس هو الحجة الدامغة. عندما تنهار جميع الأهداف الخارجية (النجاة، الحرية)، لا يتبقى سوى القيم (الشجاعة، الكرامة، إيجاد المعنى). يثبت فرانكل أن الحياة القائمة على القيم هي الحياة الوحيدة التي لا يمكن تدميرها. الحياة القائمة على الأهداف هشة وتعتمد على "الظروف الخارجية". أما الحياة القائمة على القيم فهي "حرية داخلية" مطلقة، حتى في مواجهة الموت.


 الرواقية وثنائية السيطرة

تقدم الفلسفة الرواقية، خاصة من خلال الإمبراطور ماركوس أوريليوس، الإطار العملي للتمييز بين الأهداف والقيم. الرواقية تقسم العالم إلى شيئين: ما نتحكم فيه (قيمنا، أحكامنا، أفعالنا) وما لا نتحكم فيه (الأهداف، النتائج، آراء الآخرين، الصحة).


 (من كتاب "التأملات"): "لا تَفرِض الأشياء الخارجية، التي تطلبها أو تتجنبها، نفسَها عليكَ فرضًا، إنما أنت، بمعنًى ما، من يخرج إليها. فليهدأ حكمك عليها وسوف تهدأ هي بدورها، ولن تراك تسعى إليها بعدُ ولا تتجنبها...


تذكر أن الشيء المسيطر [عقلك] يصبح لا يُقهر عندما ينكمش على ذاته، قانعاً بأنه لا يفعل شيئاً لا يريده، حتى لو كان عناده غير منطقي. فكم بالحري سيكون [لا يُقهر]، عندما يكون حكمه مبنياً على العقل والتدبر؟... النفس الخالية من الانفعالات هي قلعة حصينة. لا يوجد مكان أكثر أمناً يلجأ إليه الإنسان ليكون في مأمن من كل هجوم بعد ذلك."


 الأهداف ("الأشياء الخارجية التي تطلبها") هي مصدر قلقنا. الرغبة في "الفوز بالمباراة" (هدف) تضعنا تحت رحمة الخصم والحظ. لكن الرواقي يقول: ركز فقط على ما تتحكم به. ما تتحكم به هو "أن تلعب بأفضل ما لديك" (قيمة الشجاعة)، "أن تحترم الخصم" (قيمة العدالة)، "أن تتقبل النتيجة" (قيمة الاتزان).


الشخص الذي يركز على الأهداف هو عبد للنتائج. أما الشخص الذي يركز على القيم (الفضيلة)، فهو حر تماماً، لأن "القلعة الحصينة" (عقله وقيمه) لا يمكن اختراقها بما يحدث في الخارج.


بناءً على ما سبق، فإن الحياة التي تركز على القيم هي الأروع والأعمق بلا منازع.


الأهداف هي "أفقية"؛ إنها نقاط على خط الزمن. أما القيم فهي "عمودية"؛ إنها تقيس عمق وجودك في كل لحظة.


 حياة الأهداف تجعلك "فاعلاً" (Human Doing). حياة القيم تجعلك "كائناً" (Human Being).


 حياة الأهداف تجيب على سؤال "ماذا بعد؟" بالمزيد من الأهداف، وهو سباق لا ينتهي. حياة القيم تجيب على سؤال "ماذا الآن؟" بالعيش وفقاً للمبادئ، وهو سلام دائم.


عند الفشل: إذا فشلت في هدفك، فأنت "فاشل". إذا فشلت في هدفك بينما كنت تعيش قيمك (مثل الصدق والمثابرة)، فأنت لم تفشل كإنسان؛ لقد عشت قيمك في مواجهة الصعاب، وهذا هو التعريف الأسمى للنجاح الأخلاقي.


 التوليف العظيم (القيم تختار الأهداف)

الخطأ الأكبر هو الظن أنه يجب علينا الاختيار بينهما. الذكاء ليس في الاختيار، بل في الترتيب.


الحياة المثلى ليست أهدافاً بلا قيم (وهي حياة قاسية بلا معنى)، وليست قيماً بلا أهداف (وهي حياة سلبية بلا تأثير).


الحياة الأروع هي التي تستخدم فيها قيمك كمرشّح لاختيار أهدافك.


ابدأ بالقيم (البوصلة): حدد "من" تريد أن تكون (صادقاً، مبدعاً، رحيماً).


ثم حدد الأهداف (الوجهات): اسأل نفسك: "ما هي الأهداف التي ستسمح لي بممارسة هذه القيم؟".


إذا كانت قيمتك "النمو المعرفي"، فهدفك قد يكون "الحصول على درجة علمية". الهدف هنا ليس "الشهادة" بحد ذاتها، بل هو "الساحة" التي ستمارس فيها قيمة "النمو".


حياة الأهداف هي محاولة لبناء ناطحة سحاب على أرض هشة. حياة القيم هي بناء الأساس الصخري أولاً. الأهداف التي تُبنى على أساس متين من القيم هي الأهداف الوحيدة التي تستحق الملاحقة، لأنها حتى لو فشلت، فإن الأساس يبقى سليماً.


إذا تخيلت أن حياتك انتهت اليوم، وتم تلخيصها في جملة واحدة على شاهد قبرك، هل تفضل أن تصف "ما حققته" (أهدافه) أم "من كنت" (قيمك)؟

تعليقات