"إما/أو" دعوة إلى الاختيار \ سورين كيركغارد
يمثل كتاب "إما/أو" أول عمل فلسفي كبير لسورين كيركغارد، وهو ليس مجرد كتاب، بل هو تجربة أدبية وفكرية فريدة من نوعها. من خلال تقديم وجهتي نظر متعارضتين تمامًا للحياة، يجبرنا كيركغارد على مواجهة السؤال الأكثر أهمية: كيف يجب أن نعيش؟ الكتاب لا يقدم إجابة سهلة، بل يضعنا أمام مفترق طرق وجودي، مؤكدًا أن الاختيار نفسه هو ما يحدد هويتنا.
في عالم يزداد تعقيدًا وتشابكًا، حيث تتعدد الخيارات وتتلاشى الحدود بين الصواب والخطأ، يأتي صوت سورين كيركغارد من القرن التاسع عشر في كتابه "إما/أو" ليطرح تحديًا بسيطًا في ظاهره، ولكنه عميق في جوهره. هذا العمل ليس مجرد استعراض لوجهات نظر فلسفية، بل هو دعوة شخصية لكل قارئ للخروج من منطقة الحياد واللامبالاة. يكشف كيركغارد أن عدم الاختيار هو في حد ذاته اختيار، وأن الهروب من القرارات المصيرية يقود حتمًا إلى حياة تافهة ويائسة. "إما/أو" هو مرآة تعكس لنا أنفسنا، وتجبرنا على التساؤل: هل نعيش حياتنا وفقًا لأهواء اللحظة العابرة، أم وفقًا لالتزام أخلاقي يمنح وجودنا معنى وغاية؟
الكتاب مقسم إلى جزأين رئيسيين، كل منهما منسوب إلى مؤلف خيالي مختلف، مما يخلق حوارًا دراميًا بين رؤيتين متناقضتين للوجود.
الجزء الأول: "أوراق أ" المرحلة الجمالية
هذا الجزء عبارة عن مجموعة من المقالات، القصائد، والقصص القصيرة المنسوبة إلى شخصية "أ"، وهو شاب مجهول يمثل الإنسان الجمالي. هذا الإنسان:
يعيش من أجل اللحظة: هدفه الأسمى هو الاستمتاع بالحياة، وتذوق كل أنواع اللذة والمتعة الفكرية والحسية.
يخشى الملل: الملل هو عدوه الأكبر، ولذلك فهو في بحث دائم عن الجديد والمثير، متنقلًا من تجربة إلى أخرى.
يتجنب الالتزام: يرفض أي شكل من أشكال الالتزام الدائم، سواء كان زواجًا، وظيفة، أو عقيدة، لأن الالتزام يعني التكرار، والتكرار يولد الملل.
يعيش في عالم الإمكان: إنه مفتون بالإمكانيات أكثر من الواقع. يستمتع بالتفكير في الحب أكثر من أن يحب، وبالتخطيط للمستقبل أكثر من أن يعيشه.
النهاية الحتمية لهذه المرحلة، كما يصورها كيركغارد من خلال "يوميات غاوي" (جزء من هذا القسم)، هي اليأس. فالحياة الجمالية، رغم بريقها، فارغة من الداخل وتؤدي إلى شعور بالخواء والعبثية، لأنها تفتقر إلى جوهر ثابت ومعنى دائم.
الجزء الثاني: "أوراق ب" المرحلة الأخلاقية
هذا الجزء هو رد على الجزء الأول، وهو مكتوب على شكل رسائل طويلة من القاضي ويلهلم، صديق "أ" الأكبر سنًا. يمثل القاضي الإنسان الأخلاقي، الذي وجد معنى لحياته من خلال:
الاختيار والالتزام: على عكس "أ"، يؤمن القاضي بأن الحياة الحقيقية تبدأ عندما يختار الإنسان أن يلتزم. بالنسبة له، الزواج هو المثال الأسمى لهذا الالتزام.
الواجب والمسؤولية: يجد الإنسان الأخلاقي حريته ليس في الهروب من المسؤولية، بل في تبنيها. الواجب ليس قيدًا، بل هو ما يعطي للحياة هيكلًا وقيمة.
الشفافية مع الذات: الحياة الأخلاقية تتطلب من الإنسان أن يواجه نفسه بصدق، وأن يختار ذاته بوعي، بدلاً من أن يظل مجرد مجموعة من الإمكانيات المتناثرة.
القاضي لا يدين الحياة الجمالية تمامًا، بل يراها مرحلة ضرورية يجب تجاوزها للوصول إلى النضج الوجودي. الاختيار الحقيقي ليس بين المتعة والألم، بل بين حياة بلا معنى وحياة ذات معنى.
1. "تزوج، وسوف تندم. لا تتزوج، وسوف تندم أيضًا. اضحك على حماقات العالم، ستندم. ابكِ عليها، ستندم... علّق نفسك، ستندم. لا تعلق نفسك، ستندم. هذه يا سادتي هي خلاصة كل حكمة."
هذا الاقتباس الشهير من الجزء الأول يجسد روح الإنسان الجمالي. إنه يرى أن كل مسارات الحياة تؤدي إلى نتيجة واحدة هي الندم واليأس. هذا ليس تشاؤمًا بقدر ما هو تعبير عن الشلل الناتج عن عدم القدرة على الالتزام بأي خيار. إذا كانت كل الخيارات متساوية في تفاهتها، فلماذا نختار أصلاً؟
2. "الاختيار الأخلاقي ليس مجرد اختيار بين الخير والشر، بل هو الاختيار الذي به يختار المرء الخير والشر أو يستبعدهما."
يوضح القاضي ويلهلم هنا أن جوهر المرحلة الأخلاقية ليس فقط في اختيار "الشيء الصحيح"، بل في فعل "الاختيار" نفسه. عندما تختار، فإنك تؤسس ذاتك وتصبح مسؤولاً. الشخص الجمالي لا يختار أبدًا، ولذلك فهو لا يمتلك ذاتًا حقيقية.
3. "أعظم شيء ليس أن تكون هذا أو ذاك، بل أن تكون نفسك، وهذا يستطيع كل إنسان أن يكونه إذا أراد."
هذه هي دعوة القاضي ويلهلم الأساسية. الهدف من الحياة ليس تحقيق إنجازات خارجية (أن تكون هذا أو ذاك)، بل تحقيق الأصالة الداخلية (أن تكون نفسك). وهذا لا يحدث بالصدفة، بل هو نتيجة قرار وإرادة واعية.
آراء النقاد: يُعتبر "إما/أو" عملاً عبقريًا في الأدب الفلسفي، حيث نجح كيركغارد في تجسيد أفكاره المجردة في أصوات شخصيات حية ومقنعة. يُثني النقاد على قدرته على الجمع بين التحليل الفلسفي العميق والأسلوب الأدبي الرفيع. الانتقاد الرئيسي الموجه للكتاب هو أنه لا يقدم حلاً نهائيًا، فالكتاب ينتهي بـ"عظة" غامضة تشير إلى وجود مرحلة ثالثة (المرحلة الدينية)، والتي سيتناولها كيركغارد في كتبه اللاحقة.
"الغريب" لألبير كامو:** بطل الرواية، مورسو، يعيش نسخة متطرفة من المرحلة الجمالية، حيث يعيش اللحظة الحاضرة فقط، منفصلاً عن أي معنى أخلاقي أو اجتماعي.
"ذئب السهوب" لهيرمان هسه: يستكشف الصراع داخل بطله بين طبيعتين: الطبيعة "البشرية" المنظمة والأخلاقية، والطبيعة "الذئبية" الغريزية والمنعزلة.
"الإخوة كارامازوف" لفيودور دوستويفسكي: تقدم الرواية صراعًا بين الإيمان (أليوشا)، والشك العقلي (إيفان)، والعاطفة الحسية (ديمتري)، مما يعكس المراحل الوجودية المختلفة.
"إما/أو" هو أكثر من مجرد كتاب؛ إنه تحدٍ وجودي. يتركنا كيركغارد عالقين بين عالمين: عالم الجمال الساحر والفارغ، وعالم الأخلاق المنظم والمُلزم. لا يقدم لنا إجابة، بل يضع المسؤولية كاملة على عاتقنا. الرسالة الخالدة للكتاب هي أن الحياة تكتسب معناها ليس من خلال ما يحدث لنا، بل من خلال ما نختاره بوعي والتزام. إنها دعوة للتحول من مجرد متفرج على الحياة إلى مشارك فاعل في صنعها.
في عصرنا الذي تهيمن عليه ثقافة "الخوف من فوات الشيء" (FOMO)، والتي تدفعنا باستمرار إلى تجربة كل شيء دون الالتزام بأي شيء، هل يمكن القول إننا نعيش في "عصر جمالي" بامتياز، وأن دعوة كيركغارد إلى الاختيار الأخلاقي أصبحت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى؟
تعليقات
إرسال تعليق