معضلة المتبرع الميت: هل يمكننا أخذ حياة لإنقاذ حياة أخرى؟

 




في قلب غرف العناية المركزة، حيث يتلاشى الخط الفاصل بين الحياة والموت، تبرز إحدى أكثر المعضلات الفلسفية والأخلاقية إلحاحًا في عصرنا: معضلة التبرع بالأعضاء من شخص يحتضر. عندما يرقد مريض على فراش الموت، وأجهزته الحيوية تتلاشى، بينما على بعد أمتار قليلة، ينتظر مريض آخر بفارغ الصبر قلبًا أو رئة ليعيش، يجد الأطباء والمجتمع أنفسهم في مواجهة سؤال مرعب: متى يُعتبر الإنسان ميتًا حقًا؟ وهل من المبرر أخلاقيًا استعجال "نهاية" حياة لإنقاذ حياة أخرى على وشك أن تبدأ من جديد؟ هذه ليست مجرد مسألة طبية، بل هي صدام مباشر بين مبدأ "قدسية الحياة" ومبدأ "المنفعة القصوى"، بين حقوق الفرد المحتضر وآمال المرضى اليائسين، مما يضعنا في قلب عاصفة من الأسئلة الوجودية التي لا توجد لها إجابات سهلة.



تتجاذب هذه المعضلة أقطاب فلسفية مختلفة، وكل منها يقدم رؤية ومنطقًا يبرر موقفه، مما يجعل القرار شبه مستحيل. 


1. المذهب النفعي (Utilitarianism):

 يرى أنصار هذا المذهب، الذي أسسه فلاسفة مثل جيرمي بنثام وجون ستيوارت ميل، أن الفعل الأخلاقي الصحيح هو الذي يحقق أكبر قدر من السعادة أو المنفعة لأكبر عدد من الناس. من هذا المنظور، فإن التضحية بشخص واحد "ميت دماغيًا" أو في حالة احتضار لا رجعة فيها لإنقاذ حياة خمسة أو ستة أشخاص آخرين هو الخيار الأكثر أخلاقية. حياة هؤلاء المرضى الذين سيتلقون الأعضاء تعد بمنفعة وسعادة مستقبلية تفوق بكثير "الحياة" المتبقية للمتبرع.

التساؤل: لكن، هل يمكننا حقًا قياس قيمة حياة شخص مقابل حياة آخرين؟ وهل يفتح هذا الباب أمام منطق خطير يجعل من الأفراد "وسائل" لتحقيق غايات جماعية، مما يهدد حقوق الفرد الأساسية؟


2. المذهب الواجبي (Deontology):

الرأي: على النقيض تمامًا، يصر أنصار هذا المذهب، وعلى رأسهم إيمانويل كانط، على أن هناك واجبات أخلاقية مطلقة لا يمكن انتهاكها بغض النظر عن العواقب. من أهم هذه الواجبات هو عدم استخدام الإنسان كوسيلة لتحقيق غاية. بالنسبة لهم، المريض المحتضر لا يزال إنسانًا له كرامة وحقوق، واستخدام جسده كـ "مخزن لقطع الغيار" هو انتهاك جوهري لكرامته الإنسانية، حتى لو كان ذلك سينقذ آخرين. "قاعدة المتبرع الميت" (Dead Donor Rule) هي حجر الزاوية هنا، والتي تنص على أنه لا يجوز استئصال الأعضاء الحيوية إلا بعد التأكد من موت المتبرع بشكل قاطع.

التساؤل: إلى أي مدى يجب التمسك بهذا المبدأ عندما تكون التكنولوجيا قادرة على إبقاء الجسد "يعمل" بشكل مصطنع بينما الدماغ قد مات بالفعل؟ هل تعريف الموت نفسه بحاجة إلى إعادة نظر فلسفية وطبية؟


3. تعريف الموت: المعضلة الطبية والفلسفية

الرأي: تاريخيًا، كان الموت يُعرَّف بتوقف القلب والتنفس. لكن مع ظهور أجهزة الإنعاش، ظهر مفهوم "الموت الدماغي"، حيث يتوقف الدماغ عن العمل بشكل كامل ولا رجعة فيه بينما يظل القلب ينبض بمساعدة الأجهزة. هذا التعريف هو ما يسمح بعمليات التبرع بالأعضاء اليوم.

التساؤل: هل "الموت الدماغي" هو الموت الحقيقي؟ هل الإنسان هو مجرد وعيه وأفكاره الموجودة في الدماغ؟ أم أن هناك قدسية للجسد كوحدة متكاملة لا تزال "حية" طالما أن القلب ينبض؟



"الغاية تبرر الوسيلة.- نيكولو مكيافيلي (يُنسب إليه غالبًا)

على الرغم من أن هذا الاقتباس لم يكن في سياق طبي، إلا أنه يجسد تمامًا جوهر الحجة النفعية في معضلة التبرع بالأعضاء. إذا كانت الغاية هي إنقاذ أرواح متعددة، فهل تصبح وسيلة استئصال الأعضاء من شخص يحتضر مبررة أخلاقيًا؟ هذا هو السؤال الذي يكمن في صميم النقاش.


"عامل الإنسانية، سواء في شخصك أو في شخص أي إنسان آخر، دائمًا كغاية في حد ذاتها، وليس كوسيلة على الإطلاق." - إيمانويل كانط

 هذا هو المبدأ الأساسي في فلسفة كانط الأخلاقية، وهو يمثل الحجة الأقوى ضد استخدام المتبرع المحتضر لخدمة الآخرين. يرى كانط أن لكل إنسان قيمة جوهرية مطلقة لا يمكن المساومة عليها. من هذا المنطلق، فإن النظر إلى المريض كحل لمشكلة مريض آخر هو تجريده من قيمته كإنسان.




"إعادة التفكير في الموت" (Rethinking Life and Death) - بيتر سينجر: يقدم الفيلسوف النفعي المثير للجدل، بيتر سينجر، حجة قوية لإعادة تقييم تعريفاتنا التقليدية للحياة والموت وقدسيتها، ويناقش القضايا الأخلاقية المتعلقة بالتبرع بالأعضاء والقتل الرحيم من منظور نفعي بحت.

"أخلاقيات الطب" (Principles of Biomedical Ethics) - توم بوشامب وجيمس تشايلدرس: يُعتبر هذا الكتاب مرجعًا أساسيًا في مجال الأخلاقيات الطبية الحيوية، حيث يحدد المبادئ الأربعة الرئيسية (الاستقلالية، والإحسان، وعدم الإيذاء، والعدالة) التي يجب أخذها في الاعتبار عند مواجهة معضلات مثل التبرع بالأعضاء.



لا تزال معضلة التبرع بالأعضاء من شخص يحتضر مساحة رمادية شاسعة، حيث تتصادم فيها أعظم قيمنا: الرحمة، والواجب، والعدالة، واحترام الحياة. لا يوجد حل بسيط أو إجابة سهلة يمكن أن ترضي جميع الأطراف أو تتوافق مع كل المبادئ الفلسفية. إنها تفرض على الأطباء، والمشرعين، وكل فرد في المجتمع، التفكير بعمق في معنى أن تكون إنسانًا، وما ندين به لبعضنا البعض في أكثر لحظات الحياة هشاشة وضعفًا. القرار في النهاية ليس مجرد حسابات للمنافع والأضرار، بل هو شهادة على قيمنا الإنسانية الجوهرية.




إذا كنت أنت الطبيب المسؤول، وكان لديك مريض مات دماغيًا ولكن قلبه لا يزال ينبض، وفي نفس الوقت لديك طفل سيموت خلال ساعات إن لم يحصل على قلب جديد، فهل ستنتظر التوقف "الكامل" لقلب المتبرع، مع المخاطرة بفقدان صلاحية العضو وموت الطفل، أم ستعتبر "الموت الدماغي" نهاية كافية لاتخاذ قرار ينقذ حياة؟

تعليقات