حنا مينه / مأساة ديمتريو
" لا يمكن! " لا يمكن !! " لا يمكن !!! "يا ديمتريو، أقول لك لا يمكن، أتفهم؟ للمرة الألف هذا الشهر، و الذي قبله، قلت لك لا يمكن، أتفهم؟ قال ديمتريو لديمتريو بتسليم: "نعم لا يمكن .. أفهم ذلك، أفهمه أؤمن به، و قد قلته لك، أنا نفسي، منذ اللحظة الأولى". صاح ديمتريو الآخر: "أنت تكذب أيها الوغد، يا جواب الآفاق، تكذب و تعلم أنك تكذب، فلماذا تتظاهر بما لا تؤمن؟ حدق بوجهك في المرآة .. ألا ترى وجهك؟". عبر المرآة، حدق ديمتريو بديمترو، تحديقة خصمين متباغضين و متلازمين. حسناً! قال أحدهما للآخر، اتفقنا أنه لا يمكن. يجب أن نجزم، هذه الليلة، و إلى الأبد، بأنه لا يمكن. لقد اقتنع كلانا، باستحالة ذلك، و من الغد تتحول هذه القناعة إلى سلوك، كالذي كان، قبل أن تكون هي، قبل أن يكون اللقاء. في هذه اللحظة، شع شيء ما، في الجانب الأيسر من الصدر، و ترك إحساساً بالاختلاج كما يحدث تحت تأثير نزق عصبي، عقب فكرة تمر بالبال، أو صورة تهز الخاطر. و للتأكد من السلامة مد ديمتريو الواقف أمام المرآة، و كذلك ديمتريو الذي في داخلها، يده إلى الجانب الأيسر من صدره، و انتزع لفافة ورقية على شكل قلب، فتحها، ثم تحول إلى المصباح و نظر فيها، و إذ لم يجد شيئاً داخله سرور و راحة، فراح يطويها ليعيدها إلى مكانها، فلما فعل، لمح ظلالاً عليها. كانت في الورقة خطوط رفيعة لا تكاد تبين، تزداد ارتساماً كلما ازدادت اقتراباً من الجسم، و إمحاءً كلما ابتعدت عنه. خيل إليه، للحظة، أن الخطوط المستقيمة تنحني قليلاً و تتلاقى في زاويتين حادتين جداً، ثم ترتعش الخطوط، و تتجسم، و يرف من فوقها ألق ذكره بما كان قد رأى، يوماً، على ثغر المجدلية. و سمح الألق لنفسه بالانقسام، لتتشكل من كل قسم شفة بلون زنبقة الحقل، تنفرجان عن أسنان مرمرية، كحصاة تحت رقراق بحيرة جبلية، و الحصاة تومض بهاء أبيض، حين تنشمر الشفة العليا، مظهرة نتوءًً وردياً من اللحم الذي يصلها باللثة، ثم تتكور، في تقوس بدري، لتغدو، مع الشفة السفلى، محارة مرجانية تنشق عن تلك الحصاة الؤلؤية. صاح ديمتريو: "إنها هي! إنها هي!" و أغمض عينيه مستسلماً إلى النشوة التي بعثتها الرؤية، و شاعراً، الآن، بالعجز، عن مقاومة الرؤية. لقد تضعضعت إرادته، و القناعة التي توهم أنها حصلت تزعزعت، و سلوكه، من الغد، لن يكون كما كان، قبل أن تكونه هي، قبل أن يكون اللقاء. فتح عينيه خائفاً، كارهاً أن يرى ديمتريو الآخر في المرآة. سيصيح به: "أيها الوغد، يا عازف الكمان المتشرد، أتحسب أنك قادر على التمويه إلى الدرجة التي تخدعني بقناعتك الكاذبة؟ إذا كنت صادقاً، فامح ما على ورقتك التي أخرجتها من صدرك، و عندئذ فقط يتحول سلوكك كما كان، قبل أن تكون هي، قبل أن يكون اللقاء، و تعود ورقتك بيضاء، كما كانت قبل الكتابة". نظر ديمتريو إلى ديمتريو في شكاة صامتة: لماذ تتهمني؟ أنت تعلم أنني لم أكتب شيئاً على هذه الورقة، و لم أرسم عليها خطاً، صدقني! أقسم لك فصدقني .. حسناً .. أنت لا تصدقني، أنا نفسي لا أصدق نفسي، فما دام على ورقتي رسم، فلا بد أن يكون ثمة رسام، هذه بدهية يا توأمي، يا ذاتي، و أنا لا أجادل في البدهيات، لست سفسطائياً، و لا خيالياً، واقعي أنا واقعي أكثر مما يجب. و لم يخطر لي أن أنقض المسلمات :واحد مع واحد، و الخط المستقيم، و العلة المعلول .. كل هذا صحيح، و قد عشت على الإيمان بهذه الصحة، و لكن الرسم، على ورقتي، لم أرسمه أنا .. الألق المجدلي، الحصاة المرمرية، المحارة المرجانية، و الشفاه التي بلون زنبقة الحقل، لم أرسمها أبداً، و لا أستطيع لو أردت، و صاحبتها لم ترسمها أيضاً، لا أنا و لا هي، كلانا بريء، كلانا يقول لا يمكن، و المنطق يقول لا يمكن، و العقل يقول لا يمكن، و منذ أبصرتها قلت لا يمكن. توقف ديمتريو عن دفاعه ليستزيد من قدرته على الإقناع، استشعر تصاعداً في طاقته المعنوية، و كمن يحلل نفسه، خيل إليه أن كشفه عن جذور عقدته قد وضع في يده إمكانية حلها. صار واضحاً له الآن أن الحل رهن بانتصار إرادته على عاطفته، و كان معتداً بتلك الإرادة فأضاف: "أؤكد لك يا توأمي أن الأشياء ستكون كما أريدها. و إذا كانت عاطفتي قد ربحت على إرادتي، فأن إرادتي لا تستسلم للهزيمة، إنها تصارع .. أنا أصارع، لأنني مقتنع، و من الغد أحول قناعتي إلى سلوك الذي كان، قبل أن تكون هي، قبل أن يكون اللقاء، و تعود ورقتي بيضاء، كما كانت قبل الكتابة. كانت أمامه، على الورقة، ابتسامة. تناول ممحاة و استعد لمحو الابتسامة، لكنه احتار من أين يبدأ. ما يريده هو إطفاء الألق المشع في تلك الابتسامة، و سيفعل بغير تردد، و كل ما عليه، لكي ينجح، أن يكتشف منبع الألق، و ينقض عليه بممحاته، فيزيله و يستريح. أيها السيدات والسادة، يا من عانيتم كما أعاني، هل تعرفون، في ثغر شفتاه لون زنبقة الحقل، و تكويرته اللوزية محارة مشقوقة عن حصاة لؤلؤية، من أين ينبع ألق الابتسامة؟ أنا واقعي يا أهل مملكتي، منطقي، أومن بالعلة و المعلول، و الرسم و الرسام، و أعرف مثلكم، أن الألق سراب، لكنني بخلافكم، أبحث عن سره فهل اهتدى أحد منكم إلى هذا السر، و استطاع أن يمحوه؟ تشيرون إلى الشمس؟ ألم أقل لكم أنني واقعي و منطقي؟ لألاء الشمس لا يطفأ يا سادتي. ستنطفئ هي لذاتها يوماً، و هذا بعيد، بعد ملايين السنين، و أنا أسألكم عن شمسي، عن الابتسامة التي في ورقتي، من أين ينبع لألاؤها؟ بين الشفة و الشفة وميض برق فمن قبض منكم على وميض برق؟ ثغر دليلة كانت له شفتان أيضاً، بينهما لذة وسم، و ثغر الجوكندا له شفتان، تنث منهما قداسة. شيء يدعو إلى الراحة و الطهر، و هذا المرسوم على ورقتي، يختلف. لاسم و لا ترياق. زاويتا قوسين شفويين، ينفرجان عن ابتسامة، و ابتسامة تضيء، و أنا أبحث عن مصدر الضوء، عن سره. "حسناً! – قال ديمتريو – سأمحو الشفتين معاً، ما دام منبع الألق محصوراً فيهما". قالها بتأكيد، و قد استشعر حاجة، كنداء الثأر، إلى محو الشفتين اللتين أمامه على الورقة، فلما رفع رأسه فجأة و نظر في المرآة، التقى ديمتريو الآخر، الذي سأله بهدوء و تهكم: - ماذا تنتظر؟ تخاف؟ يا لك من جبان! آه يا توأمي العزيز، أنت تخدع نفسك في غير طائل، و لو أدركت أن ما تردده من عزم على محو الابتسامة وهم ينشد عزاء مسكيناً لأزحتني و استرحت .. ألق بالممحاة من يدك. ألقها و امض غداً، كاليوم، كالأمس، في سلوكك المألوف، العاجز، التابع، فالذين يمحون أقدار البسامات و العبرات، يملكون أصابع غير أصابعك. نكس ديمتريو رأسه معترفاً بصدق و عدالة هذا الحكم. لم يكن بحاجة إليه أصلاً، فهو يعيش منذ شهور يبني الهيكل في المساء، و ينقضه في الصباح، "آه يا آلهة اليونان! – هتف- صخرة سيزيف ارفع؟ أنا لم أفش سر النار، و لم أعشق، آلهة من الأولمب. و ما أنشده بسيط: قضاء ما تبقى من رحلة العمر في هدوء و سلام، بعد أن ودعت الصباح و حسبت ألا معاد، فالشجرة قد دب فيها اليباس. لست بستانياً، و لا أعرف أن الشجرة تخضر بعد يباس، و هاهي الشجرة تخضر بعد يباس". كم يدوم هذا؟ لا تسألوا .. المعجزة تحدث أحياناً، و إذ تحدث، في غير أوانها، تكون معجزة المعجزات. و على فراش الموت، قبل الغروب الأبدي، دعاني يوماً رجل و قال لي: "أعزف شيئاً من ألحانك يا ديمتريو، أحس أن زهرة جديدة تتفتح على غصني" قلت: "سمعا يا سيدي" و لم أعزف، حسبته في هذيان النزع، و تهيبت دموع الأهل، لكنه مد يده النحيلة، الصفراء و المعروقة الأصابع، و أمسك بيدي و قال: "ديمتريو! الحطاب آت لقطع الشجرة. أسرع. ساعد زهرتي الأخيرة على التفتح قبل أن يفوت الأوان. أنا سعيد يا ديمتريو لأن شجرتي ستقطع و هي خضراء. كذلك أردتها و كذلك كانت و أتمنى لشجرتك أن تكون مثلها، كما أتمنى لك من بعدي طول البقاء، و لكن أتمنى لك بقاء أخضر، يزهر حتى النهاية، فهل تعزف قليلاً كرمى لخاطري؟". عزفت ..
تعليقات
إرسال تعليق