المشاركات

عرض المشاركات من ديسمبر, ٢٠٢٢

رسالةٌ في التحلُّل \ إميل سيوران

صورة
حقائقنا ليست أكثر قيمةً من حقائق أسلافنا. أحللنا المفاهيم محل أساطيرهم ورموزهم فإذا نحن نعتقد أننا «متقدمون». إلّا أنّ تلك الأساطير والرموز لا تعبر إطلاقا عمّا هو أقل من مفاهيمنا. شجرة الحياة، الثعبان، حواء والفردوس، تعني بقدر ما تعني: الحياة، المعرفة، الغواية، اللاوعي. التصورات الملموسة للشر والخير في الميثولوجيا تضاهي من حيث العمق تصورات الشر والخير في الإيطيقا. لا يتغير العلم أبدًا من حيث العمق: وحدهُ الديكور يتغيّر. يتواصل الحب من دون فينوس والحرب من دون مريخ، وإذا كانت الآلهة قد كفّت عن التدخل في الأحداث، فإن الأحداث لم تصبح أكثر وضوحا ولا أقل تحييرا: كل ما حدث أن جهازًا كاملاً من الصّيغ حل محل مضخّة الأساطير القديمة، دون أن يتسبب ذلك في أي تحوير لثوابت الحياة البشرية، التي عجز العلم عن إدراكها بعمق أكثر مما فعلت الروايات الشعريّة. ليس للعُجب الحديث حدّ: نعتقد أننا أكثر تنويرًا وعمقًا من القرون الماضية كافة، ناسين أن تعليم بوذا وضع المخلوقات أمام مسألة العدم، تلك المسألة التي يخيل إلينا أننا اكتشفناها لأننا غيرنا حدودها وأدخلنا عليها شيئا من سعة العلم. لكن هل من مفكر غربي يتحمل ال

مهزلة العقل البشري \ علي الوردي

صورة
  يحكى أن قرويا ساذجا جاء إلى بغداد لأول مرة في حياته فمر بدكان لبيع الحلوى...ذهل القروي حين رأى تلك الحلوى اللذيذة مصفوفة في واجهة الدكان وصاحب الدكان جالس بجانبها ساكنا لا يأكل منها شيئا! ظن القروي أن صاحب الدكان أعمى لا يرى هذه اللذات المتراكمة حوله. ولكنه وجد بعد الفحص أنه ليس أعمى. فازدادت دهشته! إنه لا يستطيع أن يتصور إنسانا يجلس بجانب حلوى ولا يأكل منها ! وسبب ذلك أن هذه الحلوى ناذرة في القرية التي جاء منها. ولعله لم يأكل منها إلا مرة واحدة في حياته. وذلك في عرس ابن الشيخ. ولا شك بأنه شعر بلذة قصوى حين أكل منها. وقد دفعته سذاجته الى الظن بأن الحلوى تعطي آكلها لذة قصوى كل ما أكل منها. ولا فرق في ذلك بين من يأكل منها قليلا أو كثيرا. ولهذا وجدناه مذهولا عند رؤية رجل يجلس بجانب تلك الحلوى وهو ساكن وهادئ لا يسيل لعابه كأنه جالس بجانب الطين والقصب! وما حدث لهذا القروي الساذج يحدث لكل منا في وقت من الأوقات. فإذا رأى أحدنا فتاة جميلة وهي تمشي بالشارع ظن أنه سيكون أسعد الناس اذا اقترن بها أو قبلها على أقل تقدير. إنه يتوهم ذلك في الوقت الذي نجد فيه زوج الفتاة قد مل منها وكاد يلفظها لفظ ال

شجرة الحياة \ إميل سيوران

صورة
  ليس من صالِح الإنسان أن يتذكَّر في كلِّ لحظةٍ أنّه إنسان. وإذَا كان الانكبابُ على الذات أمرًا سيّئًا فإنّ الانكبابَ على الجنس البشريّ بحماسةِ مهوُوسٍ أمرٌ أسوأ: إنّه يعني أن ننسب إلى متاعب الاستبطان الاعتباطيّة أساسًا موضوعيًّا ومبرّرًا فلسفيًّا. في وسعِ كُلٍّ منّا التعلُّل بالتفكير في أنّه يستسلم لنزوةٍ، مادامَ يجترُّ أناه. لكنْ ما إن تصبح الأنواتُ كافّةً محْوَرَ اجترار لا نهاية له، حتى نقف جميعًا بشكْلٍ غير مُباشرٍ على سلبيّات شرطنا وقد عُمِّمَت، وعلى حادثتنا الخاصّة وقد أُنْزِلَتْ منزلةَ المعيار والحالة العامّة. نبدأ بإدراك الطابع الشاذّ لوجودنا كواقعٍ خام. بعدئذ نشعر بشذوذ وضعنا النوعيّ: إنّ دهشتنا من أن نكون تسبق دهشتنا من أن نكون بشرًا. إلاّ أنّ من المفترض أن تُمثِّلَ غرابةُ وَضْعِنا المُعطَى الأساسيّ لحيراتنا: أن نكون بشرًا أقلُّ طبيعيّةً من أن نكون فحَسْب. نشعرُ بذلك غريزيًّا. من ثمَّ تلك اللذّةُ التي نحسُّ بها كُلَّما أَعْرَضْنَا عن أنفُسِنا لِنَتَماهَى بِنَوْمِ الأشياء الهانئ. لسنا نحنُ حقًّا إلاّ حين نقفُ وجهًا لوجهٍ مع ذواتنا فلا نتطابقُ مع شيء، ولا حتى مع فرادَتِنا. هذه

الوعيُ كمنفى \ إميل سيوران

صورة
   يقول سيوران : " من الأفضل أن أكون حيواناً بدل إنسان ، وحشرةً بدل حيوان ، ونبتةً بدل حشرة ، وهكذا دواليك.. ". إذا كان الإنسان الكائن الوحيد الذي يتميَّز بالعقل ، فإن سيوران يمقُت هذه الميزة ، لأن الوعي الذي يفرزه هذا العقل هو سرُّ الشقاء في هذه الحياة. يقول : "الجهل وطن و الوعيُ منفى".   الوعي لعنة مزمِنة ، كارثةٌ مهولة. الوعي هو الذي يجعلنا نُدرِك خُبثَ هذا العالم ، بمجرِّد أن نعي هذا العالم ، فإنه سرعان مايسبب لنا ذلك الوعي شقاءً مزمِناً. وكما يقول "المتنبي" : "ذو العقلِ يشقى في النعيم بعقلهِ...وأخو الجهالةِ في الشقاوة ينعمُ "  من على قمم العقل تبدو لنا الحياة كلها كمرضٍ عضالٍ والعالم كلمجأ مجانين. الوعي شرخٌ وخِلاف مع العالم. إنه ليس مجرّد شوكة ، بل خنجر مغروس في عمق الجسد. ألا يتوق الإنسان إلى العودة إلى الوضع الذي كان عليه قبل الوعي ؟ أليس الأطفال أكثر سعادةٍ غالباً من البالغين ؟ لنرفع الكؤوس على نخب الجهل ، لنسكر ، لنفلت من حالة الوعي !. ألا يقول لنا "باسكال" : "إن في قنينة النبيذ من الفلسفة مايفوق كل مافي الكتب" ؟! -

التأملات \ ماركوس أوريليوس

صورة
  ثمة طريقة سوقية ولكنها مُسعفة لك في أن تضع الموت في حجمه الصحيح: وهي أن تستعرض في ذهنك قائمة بأولئك الذين تشبثوا بالحياة لفترة طويلة. ماذا ربحوا من ذلك أكثر مما ربح من مات مبكراً ؟ من المؤكد أنهم يرقدون الآن جميعاً في قبورهم. وأمثالهم من الذين ساروا في جنازات كثيرة ثم جاءت جنازة كل منهم. ما أقصر المسافة بين الميلاد الموت. أنظر أي عناء نحتمله في هذه المسافة، وأي صحبةٍ تكتنفنا فيها ومع أي صنف من الناس، وفي أي جسد واهن نقطعها في جهدٍ جهيد. ليست الحياة إذن بالشيء الثمين. أنظر إلى هول فجوة الماضي من وراءك وإلى اللانهاية الأخرى من أمامك. ما الفرق من هذا المنظور بين رضيع عاش ثلاثة أيام وانسان آخر عاش ثلاثة أجيال؟.

ما وراء الخير والشرّ \ نيتشه

صورة
  هل سيكون هؤلاء الفلاسفة المستقبليون أصدقاء للحقيقة هم أيضاً؟ من المحتمل جدًّا: إذ كُلّ الفلاسفة كانوا محبين لحقائقهم حتَّى الآن. لكن من المؤكَّد أنَّهم لن يكونوا دوغمائيين. سيكون ذلك منافيًا لكبريائهم، ومما لا يناسب ذوقهم أيضًا، إذا ما أُريد لحقيقتهم أن تكون حقيقة للجميع؛ وتلك هي الأمنيّة والفكرة السرِّيّة التي ظلَّت تسكن طموحات الدوغمائيين حتَّى الآن. ”حُكمي هو حكمي الخاصّ؛ ولا يمكن لغيري أن يدّعي بكلّ بساطة حقًّا لهُ في ذٰلك“، قد يقولُ ذٰلكَ فيلسوف مُستقبليّ. علينا أن نتخلَّص من الذوق السمج الَّذي يتمثل في إرادة أن نكون على اِتفاق مع عدد كبير من الناس. ما هو ”خيرٌ“ لن يظلَّ ”خيرًا“ إذا ما جرى على لسان جاري. وكيف يمكن أن يكون هناك ”خيرٌ عُموميٌّ!“.  فالعبارة هٰذه تُناقِضُ ذاتها في ذاتها؛ إذ ما يمكن أن يكون عموميًّا يكون قليل القيمة دومًا. وبالنهاية، ينبغي أن تظلَّ الأمور على ما هي عليه وما كانت عليه دومًا: الأشياء العظيمة للعُظماء، والأعماق للعميقين، والأشياء الليّنة والرَّقيقة للأرواح الرَّقيقة، وعمومًا وباختصار: كل ما هو نادر للنادرين.   

بيدرو بارامو \ خوان رولفو

صورة
  رواية بيدرو بارامو لخوان رولفو  رواية صغيرة الحجم لكنها أثرت كوحش على عشرات الروائيين. قال غابرييل غارسيا ماركيز إنه شعر بالعجز عن العمل كروائي بعد أن كتب أول أربعة كتب له وأن اكتشافه الذي غير حياته لبيدرو بارامو في عام 1961 هو الذي فتح طريقه لتكوين تحفته ‏مائة عام من العزلة. علاوة على ذلك ، ادعى غارسيا ماركيز أنه "يمكنه قراءة الكتاب بأكمله ، للأمام والخلف". اعتبر خورخي لويس بورخيس بيدرو بارامو أحد أعظم النصوص المكتوبة بأي لغة. أثرت هذه الرواية تأثيرًا حاسمًا على مسار رواية أمريكا الجنوبية لا سيما اتجاه الواقعية السحرية الذي عرف ‏"خوان رولفو" بأنه بمثابة الأب الروحي له. قال عنها بورخيس  إن بيدرو بارامو واحدة من أفضل الروايات في الأدب الإسباني، بل الأدب العالمي ككل. اقتباس من الرواية :  _‏ونحن هنا وحيدون تمامًا. نموت من أجل التعرف ولو على قدر ضئيل من الحياة. _‏هذا العالم يضغط على أحدنا من كل الجهات، ويفرغ حفنات من غبارنا هنا وهناك، ويحللنا إلى فتات وكأنه يرش الأرض بدمنا. ما الذي فعلناه؟ - ما أحوال أمك؟ - لقد ماتت. - ومم؟ - ربما حزنًا، كانت تتنهد كثيرًا - كل تنهيدة

الإنسان والتقنيّة \ اِشبنجلر

صورة
    كانَ الإِنسانُ، وما زالَ، سَطحيًّا أَضحَلُ، وجَبانًا لدرجةِ أنَّهُ لَم يَتحمَّل حقيقةَ موتِ كُلِّ شيء حَيّ. إنَّهُ يُلَّحِّفُ هٰذه الحَقيقةَ بِلِحافِ التفاؤل الورديُّ للتَّقدُّم، إنَّهِ يُكوِّمُ عليها زُهورَ الفُنون والعُلومِ والأَدَبِ، لاجِئًا وراءَ مَلجَأ المُثُل العُليا حتَّى لا يُبصِرُ شيئًا. لٰكِن، الفاني هو شكلُ كلُّ ما هو حَقيقي، مِن الولادة والوفاة، مِن النُّجومِ الّتي لا يُحصى مصيرها، وصولًا الىٰ اِلتقاءات سريعة الفناءِ على كوكبنا. إنَّ حياةَ المرءِ -سواءَ أكانَ حيونًا أو نباتًا أو إنسانًا- فانيَّةٌ شأنُها شأنُ الأُمَّمِ والثقافات. إنَّ كُلّ خَليقةٍ محكومٌ عليها مُسبقًا بالفناءِ، كُلُّ فكرةٍ، وكُلُّ اِكتشافٍ، وكُلُّ عَمَلٍ سَيَطواهُ النِّسيانُ.  هُنا، وهُناك، وفي كُلِّ مكانٍ نَحنُ مُدرِكونَ لمسارات التَّاريخ المَنكوبَة الّتي اختفت. أطلال الخلائِق والمكوِّنات ”الَّتي كانت“ للثقافات الفانيّة الّتي تكمنُ في كلّ شيء عنّا. ماذا عن عجرفةِ بروميثيوس؟، ذاكَ الَّذي أدخلَ يدهُ في السّماءِ لغرضِ إخضاع القوى الإِلهيّة للإنسانِ، كانَ يحملُ معهُ سُقوطهُ. ماذا، إذن، من الثَّرثَرَةِ حولَ

الوجودية مذهب إنساني \ جون بول سارتر

صورة
  الإنسان ليس قبل كل شيء، إلا مشروعا يعيش بذاته و لذاته. و هذا المشروع سابق في وجوده لكل ما عداه… فالإنسان هو ما شرع في أن يكون، لا ما أراد أن يكون. لان المعنى العادي للإرادة هو كل ما كان قرارا واعيا،و هو بذلك لاحق بوجوده لقرار سبقه. فانا أستطيع أن أريد الانتساب لأحد الأحزاب، أو أريد تأليف كتاب أو أريد الزواج، و كل ذلك ليس إلا مظهرا من مظاهر اختيار أصلي أكثر بساطة و أكثر طبيعية مما نسميه إرادة. فإذا كان الوجود يسبق حقيقة الجوهر فالإنسان إذن مسؤول عما هو كائن. فأول ما تسعى إليه الوجودية هي أن تضع الإنسان بوجه حقيقته، و أن تحمله بالتالي المسؤولية الكاملة لوجوده. و عندما نقول إن الإنسان مسؤول عن نفسه لا نعني أن الإنسان مسؤول عن وجوده الفردي فحسب بل هو بالحقيقة مسؤول عن جميع الناس و كل البشر. إن لكلمة “ذاتية” معنيين  إن أعداءنا يسيئون استعمال هاتين المعنيين عن قصد، إن كلمة “ذاتية” تعني من جهة أولى : انتقاء الفرد بنفسه و من جهة أخرى تعني : استحالة تامة تواجه الإنسان إذا أراد أن يتعدى ذاتيته. و إن المعنى الأخير هو المعنى العميق الذي تعتمده الوجودية… عندما نقول إن الإنسان يختار نفسه نعني بالت