فلسفة على إيقاع الروك \ روجيه عوطة


 

لنفهم هيغل، من الضروري أن نتعرف على جايمس بوند. وكي نقرأ أبيقور، علينا الإستماع إلى سيلين ديون. ومن أجل إدراك مقاصد هايدغر، لا بد من مشاهدة عارضة الأزياء نبيلة بن عطية. العكس؟ صحيح أيضاً. لكن، ورغم ذلك، لا أهمية للجهة، ولا حاجة إلى سؤال "مِن أين نبدأ؟". فما أن يصغي المرء إلى أغنية "The End"، التي تؤديها فرقة "The Doors"، حتى يتذكر لاكان وكتابته عن عقدة أوديب، وما أن يسترق السمع إلى "come together"، لفرقة "Beatles"، حتى يسترجع نظرية روسو في العقد الإجتماعي... فلكل فيلسوف شبيه بين فناني الروك، ولكل فلسفة مماثل لها بين الموضوعات اليومية. ولهذا السبب، في مقدور فرنسيس ميتفييه ( تور، غرب فرنسا) أن يقف على الخشبة، يحمل غيتاره الإلكتروني، قبل أن يبدأ حفلته بالتعليق على الأغاني فلسفياً.

لا يقارب فيلسوف "الروك أند روك"، أو موسيقي "فلسفة البوب"، موضوعات الراهن، بل يحتفل بها على طريقته التأويلية الخاصة. يغني، ويعزف، ويكتب، بأساليب متداخلة للغاية، حتى أنه ابتكر نوعاً جديداً من الحفلات الموسيقية، تدور بأغانيها حول الفلسفات القديمة، كالرواقية، والحديثة، البنيوية وما بعدها. وقد جمع في كتابه "الروك أند فيلو" (2011)، عددا من النصوص الموسيقية، التي تتيح للقارئ الإهتداء إلى عدد من التنظيرات، المتعلقة بالإدراك والثقافة واللاوعي والرغبة والفن إلخ. 

ذاك، أن ميتفييه، الذي يدّرس الفلسفة في إحدى الثانويات، يسعى إلى ردم المسافة بين فعليّ التفكير والعيش، منطلقاً من عبارات دايفيد هيوم:"كن فيلسوفاً، لكن، عبر كامل فلسفتك تلك، إبق انساناً". وعلى هذا النحو، يقرب ميتفييه التفلسف من تلاميذه، الذين غالباً ما يدخل إلى قاعتهم بلا أن يحضّر موضوع الدرس، معتمداً على مجانية التجادل معهم، وسائلاً إياهم أن يتصوروا أنفسهم، حين يطرحون أسئلتهم، كأنهم ما زالوا يمضون فرصة الصيف، فـ"الفلسفة مثل العطل"، خلالها، الإنفصل يعني الإتصال.

كهربة الزائل

بالموسيقى، يبلغ ميتفييه فلسفته. بالنسبة إليه، الروك يسمح للفيلسوف بإدراك الموضوع بالتعالي والمحايثة في الوقت نفسه. إذ يهبه صورةً، أو بالأحرى صوتاً كهربائياً، قبل أن يعاين قطعه المنفصلة، مثل المقاطع الموسيقية، ويؤلفه من جديد. بالتالي، يفقد الموضوع الفلسفي أي صلة له بمضمونه الماضي، ويتشكل في الحاضر، بالإنطلاق من أحداث شبه زائلة. فالفيلسوف هو الذي يتلقف الوقائع بسرعة، ومن ثم يتدارك تكبيلها له من خلال الإبتعاد عنها. وفي هذا الوقت بين التلقف والتخلي، من الضروري الحرص على عمودية التأويل، الذي يجري تقويته من خلال "التكهرب"، والتضخيم، والعزف على إيقاع الصخب.

على منواله الموسيقي هذا، يبحث ميتفييه في العلاقات بين عدد من الأغاني والفلسفات، ويعين بعض أسسها. إذ أن فرقة "Pixies" تغني كوجيتو ديكارت، كما تشرح فرقة "Nirvana" نظرية باسكال حول "الأنا البغيضة"، ويرد الفنان مارلين مانس على أرسطو حيال نظريته في الفن. أما المغني أكسل بور، فيقول في الإستغلال عند ماركس، مثلما تغني فرقة "Scorpion"، نهاية التاريخ على الطريقة الكانطية. هذا، وتغني فرقة "Pink Floyd" ميرلو بونتي، و مجموعة "Telephone" شوبنهاور، و الفنان بوب ديلان يفسر هوبز، و فرقة "Noir Désir" تؤدي مكيافيلي إلخ.

وفي بعض الأحيان، يقع الفيلسوف على تشابه بين حدثين روك-فلسفيين، لا صلة لهما بالنظرية أو الموسيقى فحسب، بل بالممارسة التنظيرية أيضاً. فعندما أدت مغنيات فرقة الروك بانك، "Pussy Riot"، بعض أغانيهن داخل كاتدرائية "المسيح المنقذ" في موسكو، معارضين سياسة فلاديمير بوتين، ومحتجين على دور الكنيسة الأرثوذكسية، كتب ميتفييه مدافعاً عنهن، ومطالباً بإطلاق سراحهن بعد أن ألقي القبض عليهن. وقد شبّه قضية "Pussy Riot" بقضية سقراط، حيث أن الإثنين، الفرقة والفيلسوف، اختارا البوح في مكان ممنوع التعبير عن الحقيقة داخله، أكان الكنيسة، أم المحكمة الأثينية. تالياً، وعلى التشابه بين الأغنية والحكمة،  ليست الممارسة الفلسفية سوى الإعلان، والإثبات أن كل ملك هو "ملك بلا غطاء".

تقليب المصفوفة

لكن، فرنسيس ميتفييه لا يحصر فلسفته في العلاقة بين الموسيقى والتنظير فقط، بل يستند إلى مقاربة ما بعد روكية، رغم أنها تتواصل على الإيقاع نفسه. ففي كتابه "زابينغ فيلو" (Zapping Philo-2013)، يتفلسف مشهدياً، على قوله في أحد نصوصه، أي أنه يسعى إلى تحويل الفلاسفة إلى شخصيات حدوثية، أو إلى "نجوم" ربما، من دون غض النظر عن استحالة استمرارهم على هذه الحال. ما يؤدي إلى تسليم اليومي لفعل التفلسف، الذي لا يعود بعيداً عن الشؤون العابرة.

بالتالي، يفلسف ميتفييه الهاتف الذكي، معتقداً أنه "ماكينة راغبة"، بحسب جيل دولوز، كما أنه يكتب في الماراتون، بوصفه خير مثال عن "فلسفة الروك". إذ لا يمكن للمرء أن يعبّر عن الركض بلا أن يركض، أي أن التجربة هي وحدها الكفيلة بتكريس نظريتها. وفي كل المضامير، يحق لـ"فلسفة الروك" أن تعاين أي موضوع من المواضيع، التي تنتجها "مصفوفة" (Matrix) العالم الحديث، نسبة ً إلى الفيلم الأميركي الشهير، أكانت سياسية، أم ميديوية، أوغيرها. ذاك، أن مهمة التفلسف هو تدارك الإعتداء، الذي قد تقدم عليه تلك المنتجات. 

كما يتحاشى الفيلسوف الوقوع في فخ العادة، أو شرك الإثارة، من خلال استخدام المفاهيم، وتصنيعها، على الطريقة الدولوزية. بالتالي، يستعين بباشلار للوقوف على برنامج "Splash"، وبديوجين كي ينتقد مسلسل "Dr.House"، وبأونفراي لإدراك أحوال الطبخ، بالإضافة إلى فنغشتاين لتحليل سياسة هولاند، وكيركغارد لشرح زواج المثليين، وهايدغر لتأويل ممارسة الجنس إلخ. 

وفي هذا المطاف، يؤلف فرنسيس ميتفييه أغنية ً روك-فلسفية، ترج دلالات الأوضاع ومضامينها، من دون أن تنهي مستمعيها عن خوض يومياتهم، والتمتع بلذائذها، بل على العكس تماماً... ذاك أن الموسيقي الصاخب  يقف بغيتاره الإلكتروني على خشبة واسعة، ويغني: فلنتفلسف، فلنعش!

بيبليوغرافيا ناشئة

درس فرنسيس ميتفييه الفلسفة في جامعة السوربون، إهتم بكيركغارد، قبل أن يتجه نحو التفلسف روكياً على طريقته الموسيقية. وقد نشر حتى اليوم سبعة كتب، منها "روك أند فيلو" (2011)، "جنس وفلسفة" (بالإشتراك مع أوفيدي، 2012)، "هل موسيقى الروك تدمث الأخلاق؟" (2013).


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش