الإنسان والتقنيّة \ اِشبنجلر


 


 كانَ الإِنسانُ، وما زالَ، سَطحيًّا أَضحَلُ، وجَبانًا لدرجةِ أنَّهُ لَم يَتحمَّل حقيقةَ موتِ كُلِّ شيء حَيّ. إنَّهُ يُلَّحِّفُ هٰذه الحَقيقةَ بِلِحافِ التفاؤل الورديُّ للتَّقدُّم، إنَّهِ يُكوِّمُ عليها زُهورَ الفُنون والعُلومِ والأَدَبِ، لاجِئًا وراءَ مَلجَأ المُثُل العُليا حتَّى لا يُبصِرُ شيئًا. لٰكِن، الفاني هو شكلُ كلُّ ما هو حَقيقي، مِن الولادة والوفاة، مِن النُّجومِ الّتي لا يُحصى مصيرها، وصولًا الىٰ اِلتقاءات سريعة الفناءِ على كوكبنا. إنَّ حياةَ المرءِ -سواءَ أكانَ حيونًا أو نباتًا أو إنسانًا- فانيَّةٌ شأنُها شأنُ الأُمَّمِ والثقافات. إنَّ كُلّ خَليقةٍ محكومٌ عليها مُسبقًا بالفناءِ، كُلُّ فكرةٍ، وكُلُّ اِكتشافٍ، وكُلُّ عَمَلٍ سَيَطواهُ النِّسيانُ. 

هُنا، وهُناك، وفي كُلِّ مكانٍ نَحنُ مُدرِكونَ لمسارات التَّاريخ المَنكوبَة الّتي اختفت. أطلال الخلائِق والمكوِّنات ”الَّتي كانت“ للثقافات الفانيّة الّتي تكمنُ في كلّ شيء عنّا. ماذا عن عجرفةِ بروميثيوس؟، ذاكَ الَّذي أدخلَ يدهُ في السّماءِ لغرضِ إخضاع القوى الإِلهيّة للإنسانِ، كانَ يحملُ معهُ سُقوطهُ. ماذا، إذن، من الثَّرثَرَةِ حولَ ”الإنجازات الّتي لا تموت“؟ إنَّ تاريخ العالمِ ليحملُ وجهًا مُختلفًا تمامًا عن الوَجه الَّذي يسمح حتّى عصرنا لنفسهِ أن يَحلمَ به. إنَّ تاريخَ الإنسانِ، مقارنةً مع عالمِ النبات والحيوان على هٰذا الكوكب – ناهيكَ عن زمن حياةِ عالمُ النُّجومِ المُتعارف عليهِ –، لعاجِلٌ حقًا. 

إنُّهُ لَصعُودٌ وهبوطٌ حادّ، يُغطِّيانِ بضعةً آلآفٍ مِن السنين، وما هي إلَّا فترة غيرُ جديرةٍ بالذكر في تاريخ الأرضِ، بيد أنَّها مليئة بالجبروتِ والشِدَّةِ المأساوية بالنسبةِ لنا، نحنُ الَّذين نولد بها. أما نحن الآدمييون في القرن العشرين، نقِفُ على منحدِر التلِّ. أبصارنُا متوجهةٌ صوبَ التَّاريخ، قابليتُنا ومقدِرتُنا على كتابة التَّاريخ، هي علامةٌ كاشفة على أن طريقنا يَنحدِرُ. في أعالي الثّقافات العُليا، كما هو الحالُ في الحضارات، تأتي هٰذه الهِبة في استقصاء التَّسليم بها لوهلةٍ من الزّمنِ، ولمرّة واحِدة فقط. 

جوهريًّا، لا يهمّ ما هو مَصير هذا الكوكب الصغير الّذي يتابع مساره في مكانٍ ما في الفضاء اللامتناهي لبعض من الوقت، بين أسراب النجوم ”الخالِدة“؛ ما زال ذا الكوكب أقل أهّميّة هو وما يَتحركُ على سطحه لبضعة لحظاتٍ. لٰكن، كلّ واحد منّا، في جوهرهِ التافه، حياةٌ وجيزةٌ لا يُمكن وصفها مقارنةً بذٰلك الكون الدوَّار. لذا، والبنسبة لنا، هذا العالم الصغير، هذا تاريخ العالم، هو شيء ذا أهمية عُليا. 

ليس ذٰلك فحسب، بل أن مَصير كلّ إنسان من بين النّاس يكونُ في وجوده بحدّ ذاته، أعني منذ الولادة، وليس عبر زجّه في تاريخ الدّنيا هذه، بل عبر احضاره إليها في قرنٍ مُعيّن، أو بلد ما، أو دين معين أو شعب معيّن، أي فئة معينة. إذ ليس بوسعنا أن نختار ما إذا كنّا نريد أن نكون أبناء فلّاحٍ مصري في عام ثلاثة آلآف قبلَ الميلادِ، أو لملكٍ فارسي، أو مُتشرد في الوقت الحاضر.

هذا هو المَصير الذي علينا أن نَتَأقلمُ معه. إنّ هٰذا المَصير هو من يحكم علينا بقبضتهِ أحكامًا لا مفرّ منه في حالات وآراء وتصرُّفات معيّنة. إذ لا يوجد ”أُناسٌ بأنفسهم“ كما يقولون الفلاسفة، بل فقط أُناسٌ في زمانٍ ما، أو منطقة ما، أو عِرق، أو عصبةٍ ما، يُكافحون في معركة مع عالم ما ويفلحون به أو يخفقون. في حين أنّ الكون من حولهم يتحرّك ببطء مع لامُبالاتٍ إِلٰهيّة. هٰذه هي معركةُ الحياة– واقعًا، بالمعنى النيتشوي، هي معركة شرسةٌ ضارية لا ترحم ولا هواد فيها بين إرادة القوّة.  

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش