مدخل إلى الفلسفة \ كارل ياسبرز
إنّ الأصل هو الينبوع الّذي ينبثق منه على الدّوام الدّافع إلى التفلسف. بفضل هدا الدّافع تغدو الفلسفة المعاصرة أمرا جوهريا، وبفضل هذا الدّافع أيضا نستطيع أن نفهم فلسفة الماضي. هذا العنصر الأصيل متعدّد الجوانب.
فالدّهشة تستتبع التّساؤل و المعرفة. والشّك بصدد ما يعتقد الإنسان أنّه يعرفه، يستتبع الفحص واليقين البين. وإضطراب الإنسان، والشّعور الّذي يخامره وهو يواجه فكرة الموت، يقوده إلى التّساؤل عن ذاته.
فلنبدأ إذا بتحديد هده العوامل الثلاثة تحديدا دقيقا :
1. ذكر أفلاطون أنّ أصل الفلسفة هو الدهشة. فالعين تجعلنا نشارك في مشهد النجوم والشّمس وجرم السّماء. هذا المشهد” يفضي بنا إلى دراسة العالم قاطبة، ومن هنا تنشأ الفلسفة بالنسبة إلينا وهي أسمى الخيرات الّتي خصت بها الآلهة الإنسان الّذي عليه حقّ الفناء.”
ويذكر أرسطو” أنّ الدّهشة هي الّتي دفعت النّاس إلى التّفلسف” أنّ الدّهشة هي الّتي تدفع الإنسان إلى المعرفة، فحين إندهش فمعنى هذا أنّني أشعر بجهلي. إنّي أبحث عن المعرفة، ولكن لكي أعرف فحسب، لا لكي أرضي حاجة مألوفة إعتياديّة. إنّ التّفلسف معناه التيقظ للإفلات من روابط الضرورة الحيويّة.
2. وحالما تهدأ دهشتي، ويكف تعجبي بفضل معرفة الواقع، حينئذ يثور الشّك. والحقيقة أنّ المعارف قد إجتمعت، ولكنّها ما تكاد تجتمع حتّى ينهض الإنسان لفحصها فحصا نقديا، ينتفي معه اليقين في كلّ شيء:
فالإدراكات الحسيّة مشروطة بحواسنا، وهي تخدعني، وصور تفكيرنا تنتمي إلى عقلنا البشري، وهي تمتزج في متناقضات لا حل لها وإذا رغبت في التّفلسف تملكني الشّك، وحاولت أن أمضي معه إلى نهاية الشّوط. وإذ أمارس الشك، يكون في مقدوري إمّا أن أنساق وراء شهوة الإنكار أو أبحث عن يقين يفلت بي من قبضة الشّك، ويصمد أمام كلّ فحص نقدي صادق. إنّ عبارة ديكارت المشهورة: ” أنا أفكر، أنا موجود.” بدت له أنّها لا تقبل الشك في اللّحظة الّتي كان يشكّ فيها في كل ما عداها، وإذ يغدو الشّك منهجيا يستتبع فحصا نقديا لكل معرفة. من هنا نخلص إلى أنّه ليس ثمّة فلسفة حقيقيّة دون أن يكون هنالك شك في الأصل.
3. حين أستغرق في معرفة الموضوعات والعالم، وفي ممارسة الشك الذي ينبغي أن يقودني إلى اليقين، فإنني أنشغل حينئذ بالأشياء، ولا أفكر في نفسي، في مصيري، وفي سعادتي، بل بالعكس من ذلك، أكون مسرورا إذ أنسى ذاتي حين أكتسب هذه المعارف الجديدة، لكن، الأمر سيتغيّر حين أعي ذاتي وأتأمل حالي فلنتأمل بعض الشيء في حالنا نحن البشر، نجد أنفسنا دائما نعيش في وضعيات أساسيّة محدّدة تنطوي عليها حياتنا، نسمّيها وضعيات نهائيّة، لا نستطيع أن نتجاوزها ولا طاقة لنا على تغييرها. إن وعينا بهده الوضعيات، معناه أنّنا نبلغ، بعد الدهشة والشّك، إلى أعمق أصل للفلسفة.
تعليقات
إرسال تعليق