وهم الإرادة \ محمد البوعيادي

نحن في المجمل لسنا أحرارا، لم يكن لعلم الأعصاب وتشريح الدماغ تأثير في عالم الفكر أفضل من هذه الخلاصة، كل إرادة واهمة بالحرية يمكن استباقها وتوقعها عبر المسح الضوئي للمخ (سام هاريس). يمكن توقع اختيار الإنسان بين شيئين أو أكثر بمئات الأجزاء من الثانية، لأن كل شيء يفعله يخضع لحتمية لاواعية تحصل بشكل صدفوي في الدماغ، وسلوك مكونات الدماغ نفسه غير قابل لإسقاط السببية: "فتح وغلق القنوات الأيونية" و "تحرر الحويصلات المتشابكة" في المخ يحصل بشكل ذاتي بدون أي تأثير للبيئة والمحيط، لا يمكننا اختيار مؤثر واعتبار اختيارنا إرادة حرة ستؤدي إلى استجابة ما بالضبط. كمية الرعب التي في هذه الواقعة العلمية يمكن تلمسها في تحليل القانون إزاء عملية القتل: هل نعتبر المجرم الذي تربى في وسط عنيف وتعرض للاغتصاب والعنف وشاهد ذبح الحيوانات في طفولته مسؤولا عن فعله أم أن طريقة تشكيل دماغه تلعب دورا في أفعاله؟ هل قام بشكل واع وبحرية إرادة بفعله؟ ...أفكارنا ذاتية النشأة وهي التي تملي علينا أفعالنا، وذاتية النشأة معناه أنها تحدث بشكل عشوائي، وما يعزز هذا الطرح هو أننا ببساطة لا نعلم مسبقا طبيعة الفكرة التالية التي ستأتينا في الدماغ، الأفكار لا تحدث كلها وفق نظام متسلسل، كثير منها يبدو لنا مفاجئا وخارجا عن النسق، وحين نتوهم أننا مسؤولون عن تلك الأفكار التي تؤدي إلى سلوكيات في العالم نحن في الواقع نتحدث عن شعور نفسي بحرية الإرادة، وليس عن سيرورة عصبية تحدث وفق توجيه منا، والشعور الذاتي باستقلالية الأفعال مجرد حدس وليس حقيقة موصوفة علميا. في حين مثلا يؤكد العلم العصبي أن النواقل العصبية تعمل بدون توجيه قبلي، هذه حقيقة وصفية لا تقبل اختلاف التأويلات، وتلك النواقل تؤدي بعد عملها إلى ردود فعل (أفعال وأقوال لم تنشأ بشكل اختياري في الدماغ) ..هنا معنى الصدفة العلمي، "المجهودات والنوايا والاختيارات عمليات غامضة" في الواقع، وفي كثير من الأحيان لا تكون سوى ردود فعل. وإن بدا الاعتراض الفلسفي القائل : "كان لدينا خيار أن نفعل شيئا لكننا فعلنا نقيضه" منطقيا فهو في الواقع ليس سوى افتراض غير مطابق لما حصل فعلا، إذ يطرح السؤال المضاد : لماذا لم نقم بذلك الاختيار إذا وقمنا بالآخر؟ . نحن لم نختر أبوينا ولغاتنا ومعتقداتنا وأفكارنا وحجمنا وشكلنا ووزننا وجيناتنا وتفاعلات جسدنا أثناء نموه مع وسط وبيئة دون غيرهما وأفعال وأحداث ومواقف دون غيرها، لذلك يبدو سخيفا أن نلوم شخصا على لونه أو شكله أو أحيانا حتى مستواه العقلي، لكن يمكننا أن نحاوره، وحين يعترض أحدهم قائلا: "لقد كنت سمينا وقررت وضع حمية وممارسة الرياضة وأصبحت نحيفا، فإرادتي الحرة هي السبب"، يمكن بكل بساطة الاعتراض على هذا التخيل بالأسئلة: لماذا لم تفعل ذلك قبل سنة..لماذا الآن بالضبط؟ هناك دوما محددات خارجية وظروف قبلية (زمانية- مكانية...) لكل اختيار، وليس مستبعدا أن سخرية الناس كانت دافعا لفعله. هذا التصور لا ينفي أن الاختيارات - وإن كانت غير واعية وغير حرة كما نفهم الحرية بمعناها المطلق - تؤدي إلى تغيير الواقع والذات. ما يؤكد الفيلسوف دانييل دانيت عليه باستمرار، هو ضرورة الفصل بين الحتمية determinism وبين الجبرية fatalism الحتمية تفيد أن لاوعينا ووعينا كلاهما يشكلان ذاتنا، لذلك نحن مسؤولون عن كل الأفعال وإن كانت تصدر عنا بدون حرية إرادة، في حين تعتبر الجبرية أو القدرية أن الوعي مطابق للذات، من ثمة فما نفعله بشكل غير واع وبدون "إرادة حرة" ليس مسؤوليتنا، وهنا فرق كبير. وفق حتمية العلم لا يجب أن يفلت المجرم من العقاب، لأن كل ما يحصل نتيجة عن ذاته والجزء اللاواعي فيها ينتسب لكيانه. ووفق جبرية السفسطة يفترض أن يفلت المجرم، وكثير من القراء السطحيين لفرويد جعلوه مجرما لأنه أخبرنا أن اللاوعي يتحكم فينا، دون أن ينتبهوا لكون الرجل لم يقل بانفصال اللاوعي عن الذات، فهو جزء من هوية الإنسان. ليس هناك أي تحلل من المسؤولية تجاه الحياة الاجتماعية في كون الإرادة مجرد وهم، وكون الأفكار تنشأ بشكل لاواع وصدفوي، بل على العكس تماما يعتقد (هاريس) أن معرفة هذه الحقيقة ستحررنا من وهم التميز، من الإيمان الأعمى بتميز عقائدنا وتميز أشكالنا وطبقاتنا الاجتماعية واستحقاقنا ل"الأفضل" والأهم من ذلك، معرفتنا بأننا لا نختار كل شيء ستدفعنا لمزيد من مقاومة الصدف، مما يعني العمل أكثر على "تحسين" ذواتنا، فالمصاب بالسكري حين ينزعج ويصرخ، ويعلم أن الأمر يتعلق بارتفاع السكر في الدم (لا إراديا) يستطيع من خلال الفهم العلمي لغياب إرادته في ذلك الفعل، أن يلجأ إلى العلاج عبر تناول الحقن وتحسين نظامه الغذائي، كي يقلل من تأثير الحدث اللاختياري في جسده (مرض السكري). لم تكن حتمية شوبنهاور سوى خطاب فلسفي سابق ومطابق لهذا المعطى العلمي: نحن لا نختار مسارات حياتنا ولا عقائدنا، وهذا المعطى يحررنا أخلاقيا من مركزية الذات ego centrism ومن وهم التحكم.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش