Into the Wild
" إن السعادة الحقيقية لن تحدث ما لم نتشاركها مع الآخرين "
من فترة وجيزة قرأت أحد المقالات عن مفهوم " الموت الرمزي " عند المحلل النفسي الشهير جاك لاكان , وعند اعادة مشاهدتي لفيلم " الى البرية " وجدت ان هذا العمل ربما يكون من اكثر الاعمال التي يمكن ان تشرح وتبين مفهوم "النظام الرمزي " وايضا " الموت الرمزي " .
تدور احداث الفيلم حول كريستوفر الذي يبحث عن السعادة الحقيقية وكان يعتقد انه سيجدها بالعزلة والابتعاد عن الحياة المدنية وعن عالم البشر في احضان الطبيعة والبرية اي بالعودة الى الحياة البدائية , ولكن بعد ان يقضي فترة من الزمن داخل احدى الحافلات المهجورة في الاسكا بعيدا عن عالم البشر يقرر العودة الى عائلته وبلدته , ولكن يحول دون ذلك ارتفاع منسوب النهر الذي جاء من خلاله وهيجانه بحيث لا يمكن المرور منه ،فيضطر للبقاء في آلاسكا ، ويبقى هكذا حتى تنتهي به الحياة، بعيدا عن عائلته وأصدقائه ويموت داخل الحافلة المهجورة لكن بعد ان يدرك أن السعادة الحقيقية لن تحدث ما لم نتشاركها مع الآخرين .
لكن ما هو مفهوم النظام الرمزي والموت الرمزي عند جاك لاكان , ان مفهوم النظام الرمزي عند جاك لاكان هو ببساطة النظام الذي يدخل الطفل البشري من خلاله إلى العالم ( اللغة، البنية الاجتماعية، الثقافة والقانون والعرف والتقليد، المؤسسات والمدارس) اي كل ما يحدد هويتنا ويمنحنا المعاني والتعريفات بشكل مسبق عن وجودنا , انه بتعبير بسيط المجتمع الذي نحن جزءا منه بكافة ما يحتويه هذا المجتمع , اما مفهوم الموت الرمزي عند جاك لاكان فهو يعني الانفصال الطوعي او القسري للذات عن النظام الرمزي الذي يشكلها ويحدد هويتها , وبالعودة الى فيلم الى البرية فاننا ندرك ان كريستوفر قد اراد وبشكل طوعي الانفصال عن هذا المجتمع او كما يسميه لاكان " النظام الرمزي " ولذلك قام بالذهاب اللى الاسكا ليعيش الحياة البدائية , ولكن في حالة كريستوفر فإننا ندرك ان هذا الشخص قد مات مرتين , في المرة مات رمزيا لانه انفصل طوعيا عن النظام الاجتماعي وهذا بحد ذاته يشكل موتا رمزيا , اما الموت الاخر فكان الموت الجسدي عندما لم يستطع العودة الى اهله ومدينته ومجتمعه ومات في الحافلة المهجورة التي كان يقطنها , في حالة كريستوفر نحن امام قضية تدعونا الى التأمل , فكريستوفر لم يجد المعنى في النظام الاجتماعي الذي يعيش فيه ويشكل هويته وعلاقاته ومعانيه لذلك احس بفقر المعنى في هذا النظام وهو ما سبب له التعب والحزن , ولذلك اعتقد ان الحل يكمن في الرحيل الى البرية والانفصال عن هذا النظام وبهذه الحالة هو ميت رمزيا , لكن الاشكالية الحقيقية في هذه القضية ان انفصال كريستوفر عن النظام الاجتماعي لم يحقق له السعادة المنشودة , بمعنى هو ايضا بهذا الانفصال لم يجد المعنى وهو ما يؤكده المشهد الختامي عندما يقول ان السعادة هي ما نتشاركه مع الاخرين , ان هذا العمل لدى تأمله بشكل عميق يبين لنا حجم المعاناة التي يعيشها الفرد ضمن المجتمعات الاستهلاكية الحديثة , فالفرد ربما يعاني مما تفرضه البنى الاجتماعية من قوانين وعلاقات ومفاهيم قد لا يجد فيها سعادته المنشودة او المعنى الوجودي الذي يجترحه لنفسه , واذا ما حاول الانفصال الطوعي عن هذا النظام فانه ايضا سيجد المعاناة بالوحدة ويشعر بانه وحيد وبائس وهو ما يعبر عنه بالموت الرمزي .
تعليقات
إرسال تعليق