حب الفلاسفة
يحكي لنا تاريخ الفلسفة بشكل متواضع عن الحبّ في حياة الفلاسفة، فتطالعنا قصصاً لعلاقات حب كان أبطالها أشهر الفلاسفة .
منها ما كُتب له النجاح، ومنها ما فشل عند أول عثرة، لخلل في المُحبّ أو المحبوب. وأشهر هذه العلاقات : " سقراط و زانتيب" - "سورين كيركجارد و ريجينا" - "جان بول سارتر و سيمون دو بوفوار" - "فريدريك نيتشه و لو سالومي " - "مارتن هايدغر و حنّة أرندت".
وسنحاول في هذا المقال تسليط الضوء بشكل مُبسَّط على هذه التجارب، لمعرفة الجانب الإنساني في الفيلسوف أكثر فأكثر، والذي غالباً ما يتم تهميشه، ذلك أن النظرة الأولية للفيلسوف توحي بأنه لا يخوض ما يخوضه عامة الناس. كيف لا و الحب إذا أراد أن يشغل الإنسان فإنه لا يأبه بشجاعته ولا بِسعة معرفته.
( سقراط و زانتيب - قصف جبهات )
اختارت زانتيب قنبلة عصرها ليكون شريكها، فلم تلبث القنبلة أن انفجرت في وجهها، وكل ذنبها أنها تزوجت أحكم الناس في زمانه. كان سقراط - بتعبيرنا العصري دلالةً على الحذق - يقصف جبهات زوجته كلما تمشدقت مُتخيَّلة أنها تستطيع مجاراته، لكن الحقيقة أن ما من أحد يمكنه الصمود أمام التهكُّم السقراطي.
قالت له يوماً: ما أقبح وجهك! .فأجابها: لولا أنكِ من المرايا الصدئة لتبين لك حسن وجهي !.
كان سقراط جالساً، يقرأ ويكتب، وكانت امرأته تغسل الثياب، فراحت تحدثه بأمر ما، وبلهجةً حادة، فلم يجبها، وهنا ارتفعت حرارة الغضب عند المرأة، فتقدمت منه و صبت فوق رأسه الماء الساخن من وعاء كبير فقال الفيلسوف على الفور : أبرقت ثم أرعدت ثم أمطرت !.
وقيل أن سقراط ذاق الأمرين في حياته الزوجية، ومع ذلك فقد قال في أواخر أيامه ناصحاً تلامذته: يجب أن يتزوج الشاب على كل حال، فإذا رُزق زوجة حكيمة مخلصة، غدا سعيداً وإذا منحته الأقدار زوجة شريرة مشاكسة أضحى فيلسوفاً !.
( كيركجارد و ريجينا - التضحية بالحب )
في سبتمبر ١٨٤٠ تقدم كيركجارد لخطوبة "ريجينا أولسن". ويقول أنه في اليوم التالي كان الندم يحاصره لإقدامه على مثل تلك الخطوة. لقد خشي أن لا يكون باستطاعته أن يكمل حياته وهو مقيد بسلاسل الزواج، كما خشي ألا يكون في قدرته إسعاد من يُحبّ، فقرر بعد عديد من الصراعات والأزمات أن يفسخ خطوبته سنة ١٨٤١ تاركاً لريجينا رسالة وداع قال فيها : "سامحي إنساناً غير قادر على تحقيق السعادة لفتاة".
( سارتر و سيمون - الحب الأبدي )
" بلا عشق ولا روعة، ولكن من أعماقي" . بهذه العبارة وصف جان بول سارتر علاقة استمرت طوال حياته.
من الصَّعب تقييم نجاح الحبِّ أو فشله، أكان حُبَّه لسيمون دو بوفوار، هو الجرَّة التي سعيا معاً لخنقها بشكل متواطئ؟ أم هو الفقاعة الوقائية من أخطار أكثر خطورة ؟
استطاع سارتر وبوفوار أن يزدهرا من خلال الحب، ربَّما لأنهما وضعاه في مرتبة أعلى من الحياة ذاتها، الحبُّ هو الإنتاج الفكري.
دُفنا في قبر مشترك، ارتبط اسمهما معا إلى الأبد، لم يتوقفا طيلة علاقتهما على العيش ككاتبين، تعاهدا على أن يُخبِر كل منهما الآخر ( كل شيء ) حتى أدق التفاصيل، وقد كان شغفهما بالمشاركة في أدق تفاصيل حياتهما اليومية - رائحة المطر، لون المصابيح في الظلام، المحادثات الفكهة التي يتبادلانها في القطار - محببّاً إلى النفس .
يقول سارتر : "ثمةَ شيءٌ واحدٌ لم يتغيرَ ولا يمكنُ أن يتغيرَ، هو أنَّه مهما حدثَ، ومهما أصبحتُ ، سأصبحهُ معكِ".
سيمون : "كنتُ أخادَعُ حينَ اعتدتُ على أن أقولَ بأننا كنَّا شخصاً واحداً، فالانسجامُ بين شخصينِ لا يُمنَح أبداً، ينبغي أن يُكتَسبُ دائماً على الرغمِ من العقبات".
( نيتشه وسالومي - الحب المستحيل )
التقى نيتشه بسالومي للمرة الأولى أسفل قبة كاتدرائية
سان بيير في روما . فاستهل لقاءه بها بعد أن انتهى من إلقاء محاضرته التي لم يحضرها سوى القلة القليلة بعبارة : من أي نجم سقط كل منا ليلتقي الآخر ؟. لكن سالومي لم تكن أبداً صيداً سهلاً. وقد منحته الأمل الزائف بمرور الوقت.
أليس هو نيتشه من قرر أن المرأة هي أخطر الألعاب ؟ حقَّاً فقد وقع على قنبلة موقوتة، وعذراء مميتة، ومتصوفة لا أخلاقية هي "لو سالومي".
لقد منحته الأمل الزائف، بمرور الوقت. ذات مرة عرضت عليه قضاء يوم كامل وحيدين بمعزل عن الباقين في "مونت ساكرو" إلا أنها كتبت في مذكراتها أن هذه النزهة بقيت الحلم الأكثر روعة بالنسبة لنيتشه !.
( هايدغر و أرندت - حبُّ بالسِّر )
لم يكن هايدغر فيلسوف الحب، وقد كتب يسبرز أن فلسفة هايدغر "بلا حب"، ولذلك فإن أسلوبه غير محبَّب. وبقي كذلك حتى جاء العام ١٩٢٧، وفيه عاش هايدغر مغامرة عاطفية مكثّفة مع تلميذته "حنة أرندت"، وقد رأى هايدغر في هذه العلاقة ما يُلائِم ذاته، واعترف أن حنة كانت ملهمته، ووحيه العاطفي في كتاباته.
ومن جانبها كتبت حنة أرندت : "لا شيء يقودنا إلى قلب العالم النابض حقَّاً ومؤكداً أكثر من الحبّ". وقد كتب لها هايدغر ذات مرة : "أتعرفين ما أصعب شيء بين الأشياء جميعاً ، وبين كل ما مُنح الإنسان ليحمله ؟ بالنسبة للباقي توجد طرق ومخابئ ليحتمي الإنسان بها، أما أن تقع فريسة للحب، فذلك يساوي أن يُعامَل الإنسان بازدراء في حياته الأكثر خصوصية".
كان هايدغر وأرندت عشيقين منذ فترة تبادلهما هذه المراسلات في بداية عام ١٩٢٥. كان الموقف معقَّداً ومؤلماً، فقد عاشا علاقتهما بالسِّر، كان يكبرها بسبعة عشر عاماً. وكانت حنة تشعر بالقلق إزاء هذه العلاقة، أما هو فلم يأبه بكل هذا، فالحب لم يترك لهما - على حد تعبير هايدغر - سوى أن ينفتح كل منهما على الآخر، وأن يتركا الأمور تسير على ماهي عليه.
و هكذا فقد عاش الفلاسفة تجارب الحب كلٌّ على طريقته، دون أن تكون فلسفاتهم غائبة عن تلك التجارب، وفي النهاية يرحل الأشخاص، ويبقى الحب.
تعليقات
إرسال تعليق