المستنقع \ حنا مينة
رواية المستنقع للروائي السوري حنا مينة الملقب بمؤرخ الفقراء والمضطهدين والذي كان يكرر دوماً إن علم الاجتماع مكتوب على ظهري، في إشارة منه الى كثرة التجارب الحياتية القاسية التي مر بها والتي عبر عنها في وصيته قائلاً: "لقد كنت سعيداً جداً في حياتي، فمنذ أبصرت عيناي النور، وأنا منذورٌ للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء، وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله، ومكافأة السماء، وإني لمن الشاكرين. كل ما فعلته في حياتي معروفٌ، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرّست كل كلماتي لأجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض، وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين من عمري، شرّعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولما أزل. لا عتبٌ ولا عتابٌ، ولست ذاكرهما، هنا، إلا للضرورة، فقد اعتمدت عمري كله، لا على الحظ، بل على الساعد، فيدي وحدها، وبمفردها، صفّقت، وإني لأشكر هذه اليد، ففي الشكر تدوم النِعم.":
" كان إسم الوالد مسجَّلاً في قائمة الفقراء الذين يوزَّع عليهم الطحين والسمن والسكر في عيدَي الميلاد والفصح.
ولسوء الحظ، كان التوزيع يجري في بهو المدرسة، ولكم عانيت من مجيء أمي إلى ذلك البهو والوقوف مع النساء الفقيرات في صف طويل، بانتظار دورها لتناول نصف كيلو من الطحين وربع كيلو من السكر و200 غرام من السمن لكلّ فرد منا حسبما هو مسجَّل في دفتر العائلة.
أيام توزيع المعونة تلك، كانت من أشدّ الأيام قسوة على نفسي، وبسببها سأهجر المدرسة حين أبلغ الصف الرابع، أما وأنا في الصف الأوَّل والثاني والثالث، فقد عرفت ثلاثة أعوام كان كعك أعيادها مرّ المذاق في فمي، لأنَّه من طحين وسكر وسمن الجمعيَّة الخيريَّة الذي يوزّع في بهو المدرسة.
وقد تترك أمي مكانها في طابور التوزيع، وتذهب إلى المعلمة لتعرّفها بنفسها. لتقول لها إنَّها أمي، وهي فخورة بذلك، مزهوَّة أن أكون إبنها، بينما أنا أعاني إحساساً بالخزي لفعلتها هذه، ولأنَّها جعلت المعلمة تعرف أنَّها أمّي، وأنَّها جاءت لتتلقى معونة الجمعيَّة الخيريَّة.
ولسوف أفكر بذلك عندما أكبر، وأستشعر أنني كنتُ نذلاً صغيراً. كنت جرواً من حيّ " الصاز" لا يدري من أين تلوث بتلك العادة الذميمة، عادة الخجل من الفقر، ولسوف يقول لي أحد العمال يوماً:
الفقر ليس عاراً، بل خجلك من كونك فقيراً هو العار، تعلم أن ترفع رأسك أمام الأغنياء، وأن تقول لهم أنَّك أفضل منهم، وستدخل هذه الكلمات إلى قلبي وعقلي، وتستقر فيهما، وأقلع منذ ذلك الحين عن الخجل بسبب الفقر، وأحتضن أمّي يوماً وأقبّلها وهي لا تدري لماذا. أقبّلها تكفيراً عن خطيئتي عندما كانت تفخر بي وأنكر أمومتها قبل صياح الديك.."
تعليقات
إرسال تعليق