المرأة والعاطفة الشخصية


 


يبدو لنا ، اذا اصغينا إلى الرجال العاديين، انهم يجعلون حياتهم تدور حول ما قد تسميه النساء "الكلمات العظيمة": "الشرف"، و"الواجب"، و"العمل"، و"الأخلاق"، و"المنطق"، و"العقل"، الخ. 

وبالاختصار، يجعل الرجال العاديون حياتهم تدور حول سلسلة من المجردات.  وهكذا ينظر العديد من الرجال إلى الوجود على انه منصّب في ضرب من القالب العام، المفروض من الخارج. ثم يحاولون أن يمتثلوا له امتثالا ليس بالجيد ولا بالسيئ.  بل إنهم يمتثلون في أغلب الأحيان امتثالا أكثر سوءاْ مما هو جيد، ذلك ان المرء يمكن ان يكون علئ يقين بأن أي رجل يتكلم على الشرف والواجب، فيقول "شرفي"، و"واجبي"، يحتفظ في رأسه بالعمومية المقننة. 

ومع ذلك، ليس لأي مجرد قيمة إنسانية إلا جعله كل فرد متلائما مع أناه الشخصية.  فمن المتعذر ان يحس شخصان بشيء واحد عندما يتكلمان على الشرف، أو على أي موضوع آخر من النوع ذاته. 

ولن تستخدم أي امرأة على الاطلاق هذه التعبيرات العامة، الجاهزة، التي تتصف بأنها، بالنسبة إليها، فارغة من المعنى. 

وتنظر المرأة مندهشة إلى الرجال الذين يستخدمون هذه الكلمات اللاشخصية، والمثلجة بالتالي.  

والمرأة مشخصة.  ويمكن موازنتها بنواة كرة هائلة.  وبما أن المرأة انتظمت، منذ مراهقتها، حول بطنها، فقد أصبح هذا البطن بالتدريج مركز شخصيتها الرمزي.  أما الرجل، إياه، فإنه يتوزع على الآلاف من نقاط محيط الدائرة، ويغرّب الواقع وحياته الداخلية عن باله، دفعة واحدة. 

ولهذا السبب، فإن الرجل العادي يعاني الحاجة إلى أن يتخذ مكاناً قصيّاً من الأشياء، وتلك حاجة مَرَضِيّة على الغالب.  إنه لضرب من مدّ البصر الوجداني.  فهو يلجأ إلى المجردات حين لم يعد يستشعر واقعه العميق.  والمرأة، على العكس، قريبة من الأشياء والواقع، لأنها هي هذا الواقع.  إنه لضرب من حسور البصر الوجداني.  

ولهذا السبب كانت المرأة شخصية أكثر من الرجل بما لا يقاس.  إنها تقول:  عملي أنا، بيتي أنا، وواجبي أنا، ومنطقي أنا، في حين يقول الرجل:  "الوطن". وهو عاجز ، على الغالب، عن أن يوظف في هذه الكلمة أي قيمة وجدانية.  فيحاول عندئذ أن يحيطها بالعاطفية، والطبول والأبواق.  ولكن "الوطن" يبقى بالنسبة إليه فكرة. 

وستقول إحدى النساء:  "وطني أنا". والقصود، بالنسبة إليها، أسرة ينبغي المحافظة عليها.  فإذا كان ثمة خطر، ذلك يعني أن عليها أن تحشد كل أولئك الذين يؤلفون جزءا من هذه الأسرة (كما تفعل مع أولادها)، فتجمعهم في "حجرها"، أي في بطنها من الناحية الرمزية. 

إذا قال أحد الرجال:  "لابد لهم من أن يمروا على جثتي"، فإنه يتصدى مجددا إلى جماعة من الأعداء ، يستشعرهم بصورة مجردة، في حين أن المرأة تقصد: الغرباء في بيتي (وطني) لن يمدوا أيديهم على مواطني بلدي، أي على أعضاء أسرتي.  وإذا رغبتم في إيضاحات بالمثال، فإنكم تجدون منها في أفلام الحرب، وفي الروايات عن الغرب الأمريكي، وفي الأفلام السينمائية القصيرة.  والمرأة، في هذا المجال، أكثر أصالة بعمق، وأكثر اتصافا بأنها طبيعية، وأكثر إخلاصا بصورة مباشرة، في حين أن الرجل يراهن على القوة المادية. 

كيف ترى المرأة العالم؟

كثير من النساء ينظرن إلى العالم الانساني، بسبب هذه النزعة إلى إضفاء الصفة الشخصية على كل شيء، على أنه تجمع من جماعات صغيرة إتنية أو ثقافية ، كالأسر  المنطوية على ذاتها، التي قلما تعاشر جيرانها.  فليس لديهن نظرة إجمالية عن المعمورة، في حين أن الرجل يكتفي بنظرة عامة ويهمل الخاص.  وتؤثر المرأة، معتمدة على عواطفها الشخصية بمغالاة، أن تساعد "أولئك الذين  تحبهم"، مع احتمال أن تجهل "أولئك الذين لا تحبهم".

فأذا نظرنا إلى الرجل والمرأة من هذه الزاوية، فإن الرجل والمرأة "السياسيين" يظهران كما يلي: 

الرجل يرى العالم، على الغالب، جملة وببرود، ودون أن تتدخل عواطفه الشخصية.  وتلك هي "السياسة" المجردة واللاشخصية. 

المرأة ترى العالم ، على الغالب، على أنه مجموعة من الأسر، هي صديقتها أو على خلاف معها، تحبها أو لا تحبها.  إنها "سياسة" العاطفة الشخصية. 

ولا يعني هذا أن المرأة لا تبالي بأمور العالم، بل إنها لا "تتعاطى" الأحاديث  العظيمة التي يسقطها الرجل في أغلب الأحيان على المستقبل.  

كانت إحدى النساء قد قالت لي: 

ـ إنه لمن المخيف أن يرى المرء أن عددا قليلا من رؤساء الدول شخصيون.  إنهم  يتوحدون بنظريات أو ببلدانهم . . .

وقالت أخرى: 

ـ رجال السياسة يقومون بحركات، ويطلقون كلمات رنانة، ولا يتميزون من أمورهم أو من نجاحهم.  ولكن، أين يوجدون، هم في هذه الأقوال؟ نحن ، معشر النساء، نبحث دائما عن الماهية خلف المظاهر.  

هنا إنما نجد الهوة الكبيرة التي تفصل بين الجنسين.  فالرجل يتوحد بما يصنع، لا بما هو عليه، والمرأة تقتضي أن يكون الرجل ما هو عليه.  

عندما يصرّح أحد الرجال في السياسة: 

ـ إنني أنا النظرية . . . أنا المشروع . . . أنا المثال . . .

. . . تجيب المرأة: 

ـ نحن الانسانية. 

وذلك يعني أمرين:  الأول أن الرجل، على الرغم من أنه يريد أن يكون فرديا، يمتزج بما يفعل، ويفصل بصعوبة بين عمله وبين شخصه.  ولهذا السبب، ترغب المرأة في أن تعرف "حياة رجال الدولة الخاصة"، وهي شغوفة أن تكتشف فيها، لا الفضائح كما يعتقد بعضهم، بل وجه هؤلاء الرجال الانساني والشخصي.  ذلك أن الفضيحة، الواقعية أو المختلفة، إنما هي أيضا الوجه الانساني لشخص ما كان يبدو أنه ذو وجه إنساني. 

والأمر الثاني أن المرأة جماعية، وشيوعية.  ولكن بمعنى أنها تتمنى لو تحوّل العالم برمته إلى أسرة.  والمرأة المحافظة:  إنها "يمينية" بعمق، لأنها حافظت على جذورها.  وهي بحاجة إلى التقاليد لأنها حضرية، مرتبطة ببيتها، ببلدها، بملكها، بخوريها.  والمرأة، بوصفها ملتحمة بالحياة، أضفيت عليها القداسة.  والتقاليد، في نظرها، طقسي يديم الجو الأسري.  

وجذر هذه المواقف موجود في الطفولة. 

فالصبي نزّاع، بطبيعته ذاتها إلى أن يهجر أسرته، وأن يهرب منها، لا بفعل الميل إلى الاكتشاف (اكتشاف الحياة) فحسب، بل لأن هذه الأسرة تذكره بعدمه الأصيل كذلك. 

أما البنت فإنها نزاعة، ولو أنها مولعة بالحرية، أن تبقى في الجو الأسري، أو أن تعود إليه:  مكان مغلق ودافئ، أضيفت عليه الداخلية.  فالمرأة، على هذا النحو، تنتمي إلى الجماعة. 

كانت مدام أنديرا غاندي تقول: 

ألا يتصف تنظيم بلد من البلدان بأنه، على مستوى أوسع، ما هي عليه، على مستوى صميمي، مهمة سيدة بيت ممتازة؟ فما أن أدخل مكتبي حتى أرى بنظرة واحدة ما يتسم بأنه على غير نا يرام . . .

ولا تبدي المرأة أي حماسة لأن تحترف السياسة،  لأنها تتصف بأنها سياسية، أي حذرة، أمومية، تدير كل الأمور بوصفها أم أسرة. 

والمرأة، موجود من موجودات الحاضرة، لا موجود كوكب لاشخصي.  إنها إذا كانت عمدة مدينة أو قرية، تنظمها بوصفها أم أسرة.  و"الجمهورية" ، و"المملكة"، لا قيمة لها، بالنسبة إليها، إلا من خلال انسانية النساء والرجال الذين يديرونها، ومن خلال أخوّتهم. 

هل سيكون دور المرأة السياسي، يوما من الأيام، أن تجعل الوجوه الانسانية تسكن مجددا هذه الجمعيات التي تسودها "أفكار" المنظرين الحديثين، أفكارهم المثلجة؟


المرأة بحث في سايكولوجيا الاعماق \  بيير داكو. ص   401- 406

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش