قدرة الحيوانات البرية على التعافي من الصدمات بشكل طبيعي بينما يعلق البشر غالبًا في دوامة الصدمات النفسية

 




لتفسير سبب قدرة الحيوانات البرية على التعافي من الصدمات بشكل طبيعي بينما يعلق البشر غالبًا في دوامة الصدمات النفسية، قدم الدكتور بيتر ليفين رؤى ثورية من خلال عمله، لا سيما في تطوير ما يُعرف بـ "التجربة الجسدية" (Somatic Experiencing). تستند ملاحظاته وأبحاثه إلى فهم عميق لكيفية معالجة الجهاز العصبي للتهديدات والصدمات.


النقاط الرئيسية في فهم الدكتور بيتر ليفين للصدمة:


1.  الصدمة كطاقة غير مُفرغة: يرى ليفين أن الصدمة ليست الحدث نفسه، بل هي الطاقة البيولوجية الهائلة التي يتم حشدها في الجسم لمواجهة التهديد (استجابة "الكر أو الفر أو التجمد") والتي لم يتم تفريغها أو إكمالها بشكل صحيح. عندما يواجه الحيوان تهديدًا، فإنه إما يقاتل أو يهرب. إذا لم يكن أي من الخيارين متاحًا، يدخل الحيوان في حالة "تجمد" أو شلل مؤقت. بمجرد زوال الخطر، يقوم الحيوان بتفريغ هذه الطاقة الهائلة من خلال حركات لا إرادية مثل الارتعاش، والاهتزاز، والتنفس العميق. هذه العملية تعيد الجهاز العصبي إلى حالة التوازن.


2.  دور العقل البشري (القشرة المخية الحديثة): على عكس الحيوانات، يمتلك البشر قشرة مخية حديثة متطورة للغاية. هذه القدرة العقلية، رغم فوائدها العديدة، يمكن أن تعيق عملية التعافي الطبيعية من الصدمة. الخوف من المشاعر الجسدية القوية، والخجل، والأحكام المسبقة، ومحاولة "فهم" الصدمة منطقيًا بدلًا من السماح للجسم بمعالجتها، كلها عوامل يمكن أن تمنع تفريغ الطاقة المكبوتة. البشر قد يقمعون الاستجابات الجسدية الطبيعية (مثل الارتعاش) بسبب التكييف الاجتماعي أو الخوف من الظهور بمظهر "ضعيف" أو "خارج عن السيطرة".


3.  "التجمد" والإكمال المعاق: عندما يشعر الإنسان بالعجز الشديد أمام تهديد ما، قد يدخل جهازه العصبي في حالة "تجمد". إذا لم يتمكن الشخص من الخروج من هذه الحالة بشكل آمن وتدريجي والسماح للجسم بإكمال الاستجابات الدفاعية التي تم كبتها، فإن هذه الطاقة تبقى محبوسة في الجهاز العصبي، مما يؤدي إلى أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) وغيرها من المشكلات المتعلقة بالصدمة مثل القلق والاكتئاب.


4.  أهمية "الإحساس المحسوس" (Felt Sense): يشدد ليفين على أهمية الوعي بالأحاسيس الجسدية الداخلية أو ما يسميه "الإحساس المحسوس". من خلال الانتباه اللطيف لهذه الأحاسيس، يمكن للأفراد البدء في معالجة الطاقة الصدمية المحبوسة تدريجيًا وبأمان.


5.  "التقطير" (Titration) و "التذبذب" (Pendulation): تعتمد طريقة "التجربة الجسدية" على مبدأين أساسيين:

    التقطير: تعريض الفرد لكميات صغيرة جدًا من الذكريات أو الأحاسيس المرتبطة بالصدمة، بشكل تدريجي ومُتحكم فيه، لتجنب إغراق الجهاز العصبي.

    التذبذب: مساعدة الفرد على التحرك بلطف بين حالة الانقباض (المرتبطة بالصدمة) وحالة التوسع أو الموارد (الأحاسيس الإيجابية أو المحايدة أو الشعور بالأمان في الحاضر). هذا التذبذب يساعد الجهاز العصبي على استعادة مرونته وتنظيمه الذاتي.


لماذا تتعافى الحيوانات البرية بشكل طبيعي؟


تتعافى الحيوانات البرية بشكل طبيعي لأنها:

تتبع غرائزها الجسدية: تسمح لأجسامها بالقيام بما هو ضروري لتفريغ الطاقة بعد التهديد (الارتعاش، الاهتزاز، الركض).

لا تمتلك قشرة مخية حديثة معقدة تعيق العملية: لا تفكر مليًا في التجربة، ولا تشعر بالخجل من استجاباتها الجسدية، ولا تحاول قمعها.

تعيش في الحاضر: بمجرد انتهاء التهديد وتفريغ الطاقة، تعود إلى حالتها الطبيعية دون اجترار الماضي أو القلق المفرط بشأن المستقبل بنفس الطريقة التي يفعلها البشر.


اقتباسات هامة للدكتور بيتر ليفين:


1.  "الصدمة ليست في الحدث، ولكن في الجهاز العصبي."

 أن الأثر الدائم للصدمة لا يكمن في طبيعة الحدث المروع نفسه، بل في كيفية استجابة الجهاز العصبي للفرد واحتفاظه بالطاقة غير المفرغة. المشكلة تكمن في الخلل الوظيفي الذي يحدث داخل الجسم نتيجة لذلك.


2.  "الحيوانات في البرية لديها آليات فطرية لتنظيم وإطلاق الطاقة العالية المرتبطة بالسلوكيات الدفاعية المنقذة للحياة. هذه الآليات توفر للحيوانات مرونة فطرية للتعافي من المواقف المهددة للحياة."

 يشير هذا إلى قدرة الحيوانات الطبيعية على استخدام استجابات جسدية غريزية (كالارتعاش والاهتزاز) للتخلص من التوتر الشديد والطاقة التي تراكمت خلال مواجهة الخطر، مما يسمح لها بالعودة إلى حالة التوازن بسرعة.


3.  "البشر غالبًا ما يتجاوزون هذه الآليات التنظيمية الفطرية، مما يؤدي إلى مجموعة واسعة من الأعراض."

يوضح ليفين هنا كيف أن التدخل المعرفي والعاطفي لدى البشر (بسبب القشرة المخية الحديثة والتأثيرات الاجتماعية) يمكن أن يعطل هذه العمليات الجسدية الطبيعية للشفاء، مما يؤدي إلى بقاء الطاقة الصدمية محبوسة وظهور أعراض مثل القلق، والاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة.


4.  "الإحساس هو لغة الجسد. إنه الطريقة التي يتواصل بها الجسم مع العقل الواعي."

أهمية الانتباه إلى الأحاسيس الجسدية الداخلية (الإحساس المحسوس) كبوابة لفهم ومعالجة الصدمة. الشفاء من الصدمة، من وجهة نظر ليفين، يتطلب إعادة الاتصال بهذه اللغة الجسدية.


5.  "عندما يتم تجميد الناس بالرعب، يصبحون مثل السيارات التي تم الضغط فيها على دواسة الوقود والمكابح في نفس الوقت."

 يصف هذا التشبيه القوي حالة "التجمد" الصدمية. يكون الجسم مليئًا بالطاقة الحركية الهائلة (الوقود) ولكنه مشلول وغير قادر على الحركة (المكابح). هذا الصراع الداخلي هو ما يخلق الكثير من المعاناة والأعراض الجسدية والنفسية.


غيّرت اكتشافات الدكتور بيتر ليفين فهمنا للصدمة من كونها مجرد اضطراب نفسي إلى فهمها كإصابة جسدية ونفسية عميقة تتطلب نهجًا علاجيًا يركز على الجسم والجهاز العصبي. لقد قدم أملًا جديدًا للكثيرين من خلال التأكيد على قدرة الجسم الفطرية على الشفاء إذا تم توفير الظروف المناسبة والدعم للسماح لهذه العمليات الطبيعية بالحدوث.





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دفاعا عن الجنون \ ممدوح عدوان

معضلة القطار...علم الأخلاق

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

السمان والخريف \ نجيب محفوظ

معضلة القنفذ \ ‏Hedgehog's dilemma

الوجود مُعاناة

المرأة والعاطفة الشخصية

معضلة سفينة ثيسيوس

رجل في الوسط \ أحمد خالد توفيق