السمان والخريف \ نجيب محفوظ
ما رغبت فيه يوما هو ألا أكون جلادا ولا ضحية، ألا أكون سجينا في بيت ضيق رفقة امرأة حزينة تبحث عن التوفيق بين نظرة المجتمع وكراهيتها لي وللملل والسأم اليومي، ولا عجوزا لصيقا بمراهقة تنضج على حساب وقتي وأعصابي.. كنت أريد أن أكون « حرا » في اختيار سجني، لكن ما لم أستوعبه ساعتها هو أن أولئك « العظماء » الذين هربت من تقليدهم، كي لا أبدو سخيفا، لم يريدوا شيئا أعقد ولا أكثر مما أردت: « الحرية » فقط ولو في نطاق ضيق. حرية أن يبحثوا في الأشياء المجردة حول الكون والإنسان والتاريخ واللغة والطبيعة والموسيقى دون أن يضطروا للخوض في تفاهات الحياة اليومية الصغيرة بسبب مصيدة البيولوجيا، لكن النساء كان لهن رأي آخر، إذ يقتصر وجودهن على فرملة تطور النوع البشري، فالمرأة لا تتصور نفسها تساهم في شيء ما يتجاوز نزعة التكاثر وفي أحسن الأحوال صناعة الخداع، لأن الطبيعة صنعت من أغلبهن غسالات صحون وأكياسا لحمل الأطفال. ما جعلني أفشل في أي علاقة لم يكن هو الخداع ولا الملل، كانت تلك مجرد مصادفات محظوظة لإنهاء تلك المهازل، الدافع العميق كان هو اعتيادي على الوحدة والهدوء، على الليالي البيضاء مع كتاب أو سفر مفاجئ أو مغازلة قنينة حمراء حتى الفجر دون مضايقة، لم أفهم دوافعي فسقطت في ما سقط فيه الجميع، أن أكون جلادا وضحية، إذ فهمت الدرس، لكن متأخرا نوعا ما: لا يمكن الجمع بين المرأة والعزلة والمعرفة.
لا يمكن لأي رجل في المجرة أن يهتم بامرأة دون أن يمنحها كامل وقته وكامل المساحة داخل جمجمته، وهكذا لم أكن لأكون أكثر من عاشق توقف نموه العقلي في الثامنة والعشرين، ولعلي مثل الكثيرين من جيلي لا نملك القدرة النفسية الكافية لمنح وجودنا مجانا مقابل الجنس. لقد رفضت الابتزاز الرخيص لنساء العالم الثالث: التخلي عن الحرية والمعرفة مقابل الجنس (الارتباط).
وحين كان علي أن أختار بين سجنين: سجن المرأة وسجن العزلة، اخترت الطريق الثالث: بائعات الهوى والعزلة، بالرغم من أن الامتهان الذي في الأمر لا يطاق وخطورته محتملة..لكن حياة بئيسة منعزلة لا تحتاج إلى أن يضاف إليها جحيم التملك وألاعيب الحب السطحية. لقد آمنت دوما أن الحب تأويل ثقافي للجنس، وفخ صنعته الطبيعة للجنسين معا، وحين لم أصادف ،ولو في الكتب، نساء تفهم ذلك غضبت ضد المرأة، كيف يختزل كائن ذاته في الالتصاق والإنجاب! حتى « مارلا سينغر » التي اخترعها تشاك بولانياك، كانت تريد الالتصاق (أو على الأقل مساحة كبيرة من حياة « تايلر »).
لم أتوقع وجود امرأة مثل ليليث يوما، إذ يبدو من المستحيل أن يكون للمرأة إيمان بلا جدوى التكاثر والتملك وذوبان الذوات في بعضها البعض، حتى ظهرت لي من علبة الرسائل بنهودها وأردافها السمراء الممتلئة بالحياة والعدم على ساق المساواة، تكره الحياة وتحبها، تريد الهرب من نساء العالم الثالث ورجاله المعوقين، تحب حريتها المحدودة، تملك من النبل ما لدى الرجال، وهو شيء لم يتوقعه نيتشه يوما ولا ظنه توماس بيرنهارد ممكنا. ما استوعبته يوما عن علاقة الحرية والمعرفة بابتزاز النساء اللواتي لا تملكن شيئا غير فروجهن ظل قائما دائما، لكن الاستمتاع بالحرية والعزلة والمعرفة بالإضافة إلى رفقتها الخالية من الكلسترول وحضورها المخاتل شيء يستحق التجربة. أليس وجودنا « وتر مشدود بين هاوتين: الولادة والعدم »؟ كل ذات تدرك هذا المعطى الخالي من الزيف والميتافيزيقا تعلم أن وجودها مجرد تجارب عابرة، مع سحر المعرفة ودهشة السفر وغواية الآخر. ليليث « آخر » من نوع فريد، لأنها تدرك ذلك المعطى مثل كل الذين فقدوا اهتمامهم بالتكاثر وتفاهة المجتمع ونظراته السطحية، تدرك مثلي أننا لسنا في حاجة لأن نكون جميلين (بالرغم من جمالها) ولا ملتزمين بمسار العلاقات كما رسمتها التقاليد والغريزة، تملك حسا غريزيا بأن كل شيء مؤقت وعابر وأن الدوام لوجه العدم فقط. ذلك يجعلها في نظري شخصية روائية أكثر منها بشرا واقعيا، « شخصية من ورق » بتعبير رولان بارث، والمثير في الأمر أنها شخصية روائية لم توجد بعد في مخيلة أي روائي
أغمض عينيه ليرى الماضي..فترة حية من نبض القلب.هدير المجد يُخلد في الأسماع وهروات الجنود كالصواريخ والحماس المُهلك للأنفس ثم الأغراء الموهن للهمم.وزحف الفتور كالمرض ثم الزلزال دون نذير كلب معروف قدرة الكلاب على التنبأ بحدوث الزلازل ونشدان العزاء عند قلب أجوف ثم صرير التليفون كصوت العدم.
تعليقات
إرسال تعليق