من كتاب اللاطمأنينة _ فرناندوا بيسوا
لو يأتي اليوم الذي أصير فيه آمناً من الناحية المالية، بحيث أستطيع أن أكتب وأنشر على سجيتي فإني أعرف بأني سأفتقد هذه الحياة المقلقة التي أكتب فيها بمشقة ولا أنشر على الاطلاق. لن أفقدها لأنها حياة فحسب، مهما كانت وضيعة، لن أحظى بها مرة أخرى أبداً، بل أيضاً لأن كل حياة تتحلى بمزايا خاصة ومتعة تخصها هي وحدها، وعندما نزاول حياة أخرى، حتى لو كانت خيراً من سالفتها، لن تكون تلك المتعة كما تخيّلناها، وستبدو تلك المزايا الخاصة أقل خصوصية، ريثما تضمحل ويبقى منها شيء نفتقده.
لو أفلحت يوماً في تنكب صليب نواياي الى الجلجلة الخيّرة، فسوف أجد جلجلة أخرى في تلك الجلجلة الخيّرة، وسأفتقد الوقت الذي كنت فيه عبثياً، وضيعاً وناقصاً. بشكل من الأشكال سأكون أقل مما عهدته.
أنا متعب. قضيت نهاراً طويلاً ممتلئاً بعمل أحمق في هذا المكتب المهجور تقريباً. موظفان غائبان بسبب المرض، والآخرون ليسوا هنا. أنا وحيد، باستثناء صبي المكتب في الخلف. أفتقد المستقبل الذي سألتفت فيه وأفتقد كل هذا، مهما كان سخيفاً.
ثمة ما يستدرجني كي أتساءل أي آلهة تبقيني هنا، كأنني في خزينة موصدة، في مأمن من أحزان الحياة ومسرّاتها أيضاً.
مهما قاسى الإنسان العادي من شظف الحياة فإن لديه، على الأقل، متعة عدم التفكير فيها. أن تأخذ الحياة كما يأتيك، وتعيشها من الخارج كقطة أو كلب ـ هكذا يعيش الناس عموماً، وهكذا ينبغي أن تُعاش الحياة، لو تحلّينا بقناعة القطة أو الكلب.
أن تفكّر هو أن تهدم. الفكرة بذاتها تتهدم خلال عملية التفكير، إذ أن تفكر هو أن تفكك. لو عرف البشر كيف يتأملون لغز الحياة، لو تعلموا كيف يشعرون بالتعقيدات الألف التي تتجسس على الروح في كل تفصيل ضئيل من كل فعل، لما ارتكبوا آنئذ أي فعل ـ ولما عاشوا أيضاً. سيقتلون أنفسهم من الرعب، كمثل الذين ينتحرون كي يتجنّبوا الإعدام في اليوم التالي.
تستقبل الروح دائماً كل تغيير في روتين المرء المعهود كأنه امتياز تنقصه الألفة، متعة يشوبها القليل من عدم الارتياح. كل من يغادر المكتب في الساعة الخامسة بينما هو معتاد على المغادرة في السادسة فسوف يجرّب بالتأكيد عطلة ذهنية، وشعوراً شبيهاً بالأسف لأنه لا يعرف ما هو صانع بنفسه.
أمس غادرت المكتب في الرابعة، إذ كان عليّ الاهتمام بعمل بعيد، وفي الخامسة انتهيت منه. لست معتاداً على التواجد في الشوارع في مثل تلك الساعة، فاكتشفت أنني في مدينة مختلفة. كان الضوء الناعم على الواجهات إياها صافياً صفاء عبثياً، والمارة إياهم يعبرون في المدينة بالقرب مني، كمثل بحارة ترجّلوا من سفينة ليلة أمس.
عدت الى المكتب، وكان لا يزال مفتوحاً، فاندهش زملائي بالطبع، لأنني للتو قد ودّعتهم اليوم. ماذا؟ لقد رجعت؟ أجل، لقد رجعت. هناك، منفرداً بتلك الوجوه المألوفة التي لا وجود لها روحياً بالنسبة إليّ، كنت حراً من وجوب أن أشعر. لقد كان المكتب بشكل ما بيتاً ـ المكان الذي لا يشعر المرء فيه بأي شيء.
الغابة
آه، حتى خزانة خلوتي لم تكن حقيقية ـ الخزانة القديمة لطفولتي الضائعة! انحسرت كالضباب، وأنا أتلمس مرورها المادي بين الجدران البيضاء لغرفتي الواقعية التي انبثقت من بين الظلال واضحة وأصغر حجماً، كالحياة والنهار، كصرير العربة والصوت الخافت للسوط وهو يستوثب العضلات في الجسد المطأطئ للحيوان المنهك.
سمّيت عجزي عن مزاولة الحياة بالعبقرية، وزيّنت جُبني بالثياب حين سمَيته تهذيباً. إلهاً مذهّباً بذهب زائف، نصبت نفسي على مذبح من الكرتون مصبوغ بالألوان كي يبدو كالرخام.
قد بلغت النقطة التي يتجسّد فيها الملل شخصاً، التقمص الخيالي لصحبتي.
العالم الخارجي موجود كممثل على خشبة مسرح: إنه هناك، لكنه شيء آخر.
…. وكل شيء مرض لا براء منه.
خمول الشعور، الإحباط لأني لن أعرف أبداً كيف أقوم بأي شيء، العجز عن اتخاذ اي فعل….
متسللاً بين بنايتين، في مساحات متحوّلة من الضوء والظل (أو بالأحرى، بقع من ضوء أشد سطوعاً وضوء آخر أقل سطوعاً)، يهبط الصباح فوق المدينة. وكأنه لا يأتي من الشمس بل من المدينة نفسها، كأن ضوء الشمس انبثق من الجدران والأسطحة.. لم ينبثق منها فيزيائياً، لأنها بمحض الصدفة متواجدة هناك.
أن أرى الضوء وأحس به يبعث فيّ أملاً كبيراً، لكني أدرك بأن الأمل لفظ أدبي. الصباح، الربيع، الأمل ـ مفردتان تترابط موسيقياً من خلال الغاية الإيقاعية ذاتها؛ وهي مترابطة في الروح بواسطة الذكرى التي أحملها عن غاية إيقاعية مماثلة. كلا: لو راقبت نفسي كما أراقب المدينة، فسوف أدرك أن كل ما أستطيع أن آمله هو أن ينتهي هذا اليوم كسائر الأيام. العقل أيضاً يرى الفجر. كل أمل وضعته في هذا اليوم لم يكن أملي؛ كان أمل أولئك الذين يعيشون الساعة العابرة فحسب، وتصادف إني جسّدت، للحظة، طريقتهم الخارجية في الفهم.
الأمل؟ بمّ سآمل؟ لا يعدني النهار بأكثر من كونه نهاراً، وأنا أعرف إن له مدة محددة وسوف ينتهي. يواسيني الضوء ولكنه لا يحسّن حالتي، لأنني سأبتعد وأنا الرجل نفسه ـ كبرت بضع ساعات فحسب، مع إحساس أو اثنين أكثر سعادة، وفكرة أو اثنتين أكثر حزناً. عندما يولد شيء ما، بوسعنا أن نشعر به كولادة تمّت، أو نستطيع التفكير بأن عليه أن يموت. الآن، تحت ضياء الشمس المبهر، مشهد المدينة شبيه بحقل مفتوح من المباني ـ الطبيعية والشاسعة والمتناغمة. ولكن، في أثناء رؤيتي كل هذا، هل بمستطاعي أن أنسى أني موجود؟ وعيي للمدينة هو، في الصميم، وعيي لنفسي.
بغتة أتذكر عندما كنت طفلاً ورأيت ـ مثلما لا أستطيع اليوم أن أرى ـ الفجر ينبلج فوق المدينة. آنذاك، لم يكن الفجر ينبلج لأجلي وإنما لأجل الحياة، لأنني آنذاك (غير مدرك بعد) كنت الحياة. رأيت الفجر ينبلج وشعرت بالسعادة؛ اليوم أرى الفجر ينبلج، أشعر بالسعادة وأصير حزيناً. لا يزال الطفل هناك، لكنه بات صامتاً. أرى كما كنت أرى، لكني ـ وراء عيني ـ أرى إنني أرى، وذلك يكفي كي تعتم الشمس ويشيخ اخضرار الشجر وتذبل الأزهار قبل أن تتفتح. أجل، ذات مرة كنت منتمياً الى هذا المكان هنا؛ أما اليوم، أمام كل مشهد، مهما تألقت نضارته، فأقف مثل أجنبي. ضيف وحاج، غريباً عما أراه وأسمعه، عجوزاً قدام نفسي.
لقد رأيت كل شيء، رأيت حتى ما لم أره قط ولن أراه أبداً. ذكرى مناظر المستقبل تتدفق في دمي، وقلقي إزاء ما يتعيّن عليّ أن أراه مرة أخرى قد أضحى رتيباً بالنسبة إليّ.
وباتكالي على حافة النافذة كي أستمتع بالنهار، محدقاً بالكتلة المتنوعة للمدينة بأسرها، لا تملأ روحي إلا فكرة واحدة: إني، من الصميم، أتمنى أن أموت… لو كففت عن الوجود، فلا أرى المزيد من الضوء يشرف في هذه المدينة أو في أي مدينة أخرى، لو كففت عن التفكير، لو كففت عن الشعور… لو أترك ورائي زحف الوقت والشمس مثل قطعة من ورق التغليف، لو أخلع كمثل دثار ثقيل ـ الى جوار السرير الكبير ـ جهد الوجود القسرى .
تعليقات
إرسال تعليق