الإعتراف قصة قصيرة _ أنطون تشيخوف
كان النهار صحواً، صقيعياً...وكانت نفسي منشرحة، مغتبطة، كنفس حوذي أخطؤوا معه فأعطوه روبلاً ذهبياً بدلاً من عشرينية. كانت تنتابني رغبة في البكاء، في الضحك والصلاة...كنت أشعر أنني في السماء السابعة. فللتو قد جعلوا مني أمين صندوق! لم أكن أشعر بالفرح لأنه قد أصبح بإمكاني الإستيلاء. فأنا حينذاك لم أكن قد صرت لصاً بعد،ولو أن أحداً حينها قال لي أني سأصبح لصاً لدمّرتُه...
بل كنت فرحاً لسبب آخر: هو ترقيتي في الوظيفة، والعلاوة التافهة في الراتب فقط لا غير. ثم إن هناك أمراً آخر كان يفرحني. فما إن أصبحت أمين صندوق حتى صرت أشعر كما لو إنني قد ارتديت نظارة وردية. فجأة أخذ يبدو لي أن الناس قد تغيروا. أي بشرفي. كلهم كما لو أنهم قد أصبحوا أحسن مما كانوا. الدميمون أصبحوا جميلين، والأشرار أصبحوا أخياراً، والمتكبرون أصبحوا متواضعين، ومبغضوا الناس أصبحوا من محبيهم.
لكأن ذهني قد أشرق.صرت أرى في الإنسان خصالاً رائعة لم أكن أفترض وجودها من قبل فيه. كنت أقول وأنا أنظر إلى الناس وأفرك عيني: «غريب! إما أن أمراً ما قد حدث لهم،أو أنني كنت من قبل غبياً ولم أكن ألاحظ كل هذه الخصال. يا لروعة هؤلاء الناس!»
وكان ممن تغيروا في يوم تعييني"ز. ن. كازاسوف"،أحد أعضاء مديريتنا.
وهو شخص متكبر، متعجرف،يتجاهل الأسماك الصغيرة.
اقترب مني و...– ما الذي حدث له؟! – ابتسم لي بلطف، وطفق يربت كتفي وهو يقول:
- إن كبرياءك يا عزيزي تفوق سنك. لا يحسن هذا! لماذا لا تزورنا بالمرة؟ هذا حرام، أيها المحترم! الشبان والفتيات يجتمعون عندي، والجو مرح جداً.
بناتي يسألنني دائماً: «لماذا يا بابا لا تدعو غريغوري كوزميتش؟ إنه إنسان لطيف جداً! فأقول لهن: وهل بإمكاني أن أجره جراً؟ على كل حال سأحاول أن أدعوه». لا تتدلل يا عزيزي، تعال! عجيب! ماذا به؟ أتراه فقد عقله. كان من أكلة لحوم البشر، وفجأة...
هاك! عندما عدت إلى البيت في ذاك اليوم أصبت بالذهول. فأمي لم تقدم على الغداء طبقين كعادتها دائماً، بل أربعة أطباق. وقدمت مساء مع الشاي مربى وخبزاً دسماً محلّى. وفي اليوم التالي عادت ثانية فقدمت أربعة أطباق ومربى.
وجاءنا ضيوف فقدمت لهم شراب الشوكولاته.
قلت لها:
- ما بك يا أمي؟ ما الذي جعلك تتكرمين إلى هذا الحد. يا عزيزتي. راتبي لم يتضاعف، والعلاوة تافهة.
فنظرت إلي مندهشة وتساءلت:
- "هـم. وأين ستذهب بالنقود؟ أم تراك ستدخرها؟"
الله وحده يعلم ما الذي دهاهم!
أما والدي فقد أوصى على معطف فراء لنفسه،واشترى قبعة شتوية جديدة، وصار يتداوى بالمياه المعدنية بل وأخذ يأكل العنب في الشتاء!
وبعد خمسة أيام وصلتني رسالة من أخي. وأخي هذا لم يكن يطيقني. كنا قد افترقنا بسبب اختلاف القناعات:
فقد كان يبدو له أنني أناني وطفيلي ولست مستعداً للتضحية،ولذا كان يكرهني.
وقد قرأت في رسالته ما يأتي: «أخي الحبيب! إنني أحبك، وليس بإمكانك أن تتصور أية آلام جهنمية يسببها لي الخصام بيننا. هيا نتصالح! ليمد كل منا يده للآخر، وليسد بيننا الوئام.أتوسل إليك!
وفي انتظار جوابك سأظل أخاك المحب الذي يعانقك ويقبّلك. "يفلامبي"».
آه يا أخي الحبيب! أجبته بأنني أقبّله، وأنني مسرور. وبعد أسبوع وصلتني البرقية الآتية: «شكراً لك، إنني سعيد، أرسل لي مئة روبل، فأنا بأمس الحاجة إليها. أعانقك. ..."يفلامبي".»
فأرسلت إليه مئة روبل...
حتى هي تغيّرت.حيث لم تكن تحبني. وعندما تجرأتُ مرّة ولمّحت لها أن في قلبي اضطراباً ما،نعتتني بالوقح ونخرت في وجهي.ولكن عندما قابلتني بعد أسبوع من ترقيتي ابتسمت،ورسمت غمازتين على وجنتيها وأبدت الخجل...
-ما الذي طرأ عليك؟ - تساءلت وهي تنظر إلي -لقد أصبحتَ وسيماً جداً -متى أصبحتَ هكذا؟ هيا بنا فلنرقص..
يا حبيبي! بعد شهر واحد أصبحت أمها حماتي:إلى هذا الحد أصبحتُ أجمل! وقد احتجت إلى نقود من أجل العرس، فأخذت من الصندوق ثلاثمئة روبل. ولِم لا آخذ ما دمت أعلم أنني سأعيدها عندما أقبض الراتب؟ وقد أخذت أيضاً، بالمناسبة، مئة روبل من أجل كازوسوف... فقد رجاني أن أسلفه... ولا يجوز أن لا أعطيه. إنه طويل الباع، وبإمكانه أن يسرح من الوظيفة في أية لحظة...
قبل اعتقالي بأسبوع أقمت لهم حفلة بناء على طلبهم.بحق الشيطان!، فليبلعوا ويكرعوا إذا كانت لديهم كل هذه الرغبة في هذا! لم أعد الأشخاص الذين حضروا الحفلة، ولكنني أذكر أن غرف البيت التسع جميعها كانت مكتظة،حضر الكبار والصغار... وجاء أشخاص حتى كازوسوف نفسه ينحني أمامهم
كالقوس. وكانت بنات كازوسوف (وكُبراهن موضع اهتمامي) يبهرن الأبصار بزينتهن.. الأزهار وحدها التي غمرتهن بها كلفتني أكثر من ألف روبل...كان الجو مرحاً جداً... الموسيقى تصدح، والثريات تلمع، والشمبانيا تتدفق...وقد أُلقيتْ كلمات طويلة، ورفعتْ أنخاب قصيرة... ومدحني أحد الصحفيين
بقصيدة غنائية، وآخر بقصيدة ملحمية...وهتف كازوسوف على العشاء:
- "عندنا في روسيا لا يعرفون كيف يقدرون الأشخاص من أمثال
غريغوري كوزميتش! واأسفاه! واأسفاه عليك يا روسيا!"
وكل هؤلاء الهتافين والمداحين والمقبلين كانوا يتهامسون ويهزون أصابعهم الوسطى عندما كنت أوليهم ظهري... كنت أرى ابتساماتهم وأصابعهم الوسطى وأسمع تنهداتهم...كانوا يهمسون وهم يبتسمون بشماتة:
- "لقد سرق، المحتال!"
لكن لا هز الأصابع الوسطى ولا التنهدات كانت تمنعهم من أن يأكلوا
ويشربوا ويتمتعوا...حتى الذئاب والمرضى بالسكري لا يأكلون كما أكل هؤلاء... اقتربت مني زوجتي وهي تتلألأ بالألماس والذهب وهمست لي:
- "يقولون إنك...سرقت.إذا كان هذا صحيحاً فعليك أن تحترس! ليس بإمكاني أن أعيش مع لص! سوف أتركك!"
كانت تقول هذا وهي تصلح من وضع فستانها الذي اشتريته لها بخمسة آلاف روبل...الشيطان وحده يفهمهن! في أثناء الحفلة أخذ مني "كازوسوف" خمسة آلاف روبل...كما استدان "يفلامبي" مبلغاً مماثلاً.
وقال لي أخي صاحب المبادئ وهو يضع النقود في جيبه:
- "إذا كان ما يهمسون به صحيحاً، فعليك أن تحترس! ليس بإمكاني أن أكون أخاً للص!"
بعد الحفلة أخذتُ الجميع في عربات ثلاثية الخيول إلى الضاحية...ولم ننته إلاّ في السادسة صباحاً...كانوا منهكين من الخمر والنساء فتمددوا في الزلاجات استعداداً للعودة...وعندما انطلقت الزلاجات صاحوا بي مودعين:
- "غداً التفتيش! شكراً"
سادتي الأفاضل وسيداتي الفاضلات! لقد وقعت...وقعت، أو بتعبير أطول:البارحة كنت مستقيماً، شريفاً، وكانوا يغمرون جسمي كله بالقبلات، أما اليوم فأنا نصاب، غشاش، لص...هيا اصرخوا الآن في واشتموني، وتقولوا علي، وانشدهوا من فعلتي، وحاكموني وانفوني، واكتبوا عني الافتتاحيات، وارجموني بالأحجار، ولكن...من فضلكم، ليس كلكم! ليس كلكم!
-تمت- كانون الثاني ١٨٨٣
تعليقات
إرسال تعليق