زوربا / نيكوس كازانتزاكيس
كانت السماء صافية تماما والنجوم تبدو كبيرة متدلية من السماء ككرات من نار، بينما بدا الليل مثل وحش اسود كبير يجثم على الشاطئ.
وازدحمت الكنيسة الدافئة بالقرويين. فوقف الرجال في المقدّمة أمام النساء، وعقد الجميع أيديهم فوق صدورهم. بينما اخذ الأب ستيفانوس، بقامته الطويلة وثوبه الموشّى بالذهب ووجهه الشاحب بعد صيام أربعين يوما، يروح ويغدو بخطى واسعة ويترنّم بأعلى صوته وبسرعة لكي يعود على عجل إلى بيته حيث تنتظره مائدة مثقلة بالحساء والشواء وسائر الأطعمة الشهيّة .
ولو لم تقل الكتب المقدّسة أن النور ولد في مثل هذه الليلة لما نشأت الأسطورة وملأت الدنيا، ولمرّ الحادث كأيّ ظاهرة طبيعية عادية دون أن يلهب الأخيلة.
لكن النور الذي ولد في صميم الشتاء أصبح طفلا والطفل أصبح إلها دانت له النفوس والأرواح عشرين قرنا.
كنت سعيدا وقلت لنفسي: هذه هي السعادة الحقيقية. أن يعيش الإنسان بلا مطامع ويعمل ويكدّ كأنّ له ألف مطمع. وأن يحبّ الناس ويعمل لخيرهم دون أن يكون في حاجة إليهم. وأن يأكل ويشرب ويشترك في أعياد الميلاد دون أن يتورّط في المتاعب أو يقع في الفخاخ. وأن يسير على الشاطئ والنجوم فوقه والبحر إلى يمينه والأرض إلى يساره. وأن يشعر بأن الحياة أنجزت معجزتها الكبرى فصارت قصّة من وحي الخيال.
ومرّت الأيام وحاولت أن اصطنع المرح رغم الحزن الذي كنت اشعر به في قرارة نفسي. فقد أزال أسبوع الأعياد الغابر عنّي كثيرا من الذكريات؛ ذكريات عن موسيقى بعيدة وأناس أحببتهم. وراعني صدق العبارة القديمة التي تقول إن قلب الإنسان حفرة مليئة بالدم، وأولئك الأحباب الذين ماتوا يلقون بأنفسهم على حافّة الحفرة وينهلون من الدم. وهكذا يعودون إلى الحياة، وكلما كان حبّك لهم عظيما زادت الكمية التي ينتهلونها من دمك.
وفي صباح أوّل يوم من العام الجديد فتحت عينيّ على زوربا وهو يدقّ رمّانة بباب الكوخ. وانشقت الرمّانة وتناثرت بذورها كحبّات الياقوت الصافي الأديم. وسقط بعضها على الفراش، فتناولت بضع حبّات وأكلتها وشعرت بانتعاش.
في صباح اليوم التالي رافقت زوربا إلى القرية ودار بيننا في الطريق حديث جرى عن العمل في المنجم. وفيما كنا نهبط منحدرا، ضرب زوربا بقدمه حجرا فتدحرج الحجر في المنحدر. ووقف زوربا مبهوتا وكأنه يرى هذا المنظر لأول مرّة في حياته. والتفت اليّ وقال: هل رأيت؟ إن الحياة تعود إلى الحجارة في المنحدرات. فلم اجبه، لكني شعرت بسرور وبهجة وقلت لنفسي: هكذا ينظر كبار الشعراء والمفكّرين إلى الأشياء كأنهم يرونها لأوّل مرّة. والواقع أنهم لا يرونها وإنما يخلقونها.
لقد كانت الدنيا في نظر زوربا كما كانت في نظر الإنسان الأول مجرّد مشهد كبير رائع. فالنجوم تتألق فوق رأسه وأمواج البحر تتكسّر تحت قدميه وهو يعيش مع الأرض والماء والحيوان والله دون أن يفسد عليه التفكير العقيم متعة الحياة.
إنني ما زلت أتذكّر أن الوقت كان ظهرا عندما كنا في احد متاحف برلين حيث كان صديقي يودّع لوحته العزيزة "المحارب" للرسّام رمبراندت. ونظر صديقي إلى تلك اللوحة متأمّلا المحارب الحاقد اليائس وقال: إذا ما تمكّنت من القيام في حياتي بعمل جدير بالرجال فسأكون مدينا به له.
كنا في صالة المتحف نقف قرب عامود وأمامنا تمثال من البرونز لفارسة عارية تمتطي حصانا برّيا متوحّشا. وحطّ عصفور على رأس التمثال والتفت صوبنا وهزّ ذيله وأطلق لحنا هازئا ثم طار في سبيله. وارتعدتُ وأنا انظر إلى صديقي وسألته: هل سمعت العصفور؟ خيّل إليّ انه قال لنا شيئا ثم طار في سبيله. وابتسم الصديق وأجابني بمثل من أمثالنا العامّة: انه عصفور. دعه يغني. دعه يتكلّم".
وأتذكّر كيف كانت هذه اللحظة عند طلوع الفجر على شاطئ كريت تعود إلى مخيّلتي مع ذلك المثل الحزين لتملأ عقلي بالمرارة.
ووضعت قليلا من التبغ في غليوني وأشعلته. إن كلّ شيء في هذا العالم له معان خفيّة. البَشَر، الحيوانات، الشجر، النجوم.. إنها تبدو كالرموز الهيروغليفية لمن بدأ في حلّ رموزها ليكتشف خفاياها. وبعد مرور السنين وبعد فوات الأوان تفهم معناها الحقيقي.
ورحت أتابع الدخان المتصاعد من الغليون. وكانت روحي تندمج بهذا الدخان وتتلاشى معه في حلقاته الزرقاء الدائرية. ومرّ وقت طويل كنت اشعر - دون العودة إلى المنطق وبيقين لا يوصف - بحقيقة هذا العالم وانبثاقه وزواله.
تعليقات
إرسال تعليق