يغرنوط "أحد الآلهة الهندية"



ولقد كان من الممكن أن أجتنب وقوع العين عَليّ لو لم يزلَّ لوحيَ الغادر، من يدي، بطريقة ما، مُحدثاً قرقعة متطفلة لفتت إليّ جميع العيون في الحال. وأدركت الآن أن كل شيء قد انتهى، وبينما انحنيت لالتقاط قطعتيّ اللوح المكسور استجمعت قواي انتظاراً لما هو أسوأ. وكان ما خفتٌ أن يكون، فقال مستر بروكلهورست: «فتاة مهملة»! ثم أضاف بعد ذلك مباشرة: «إنها الطالبة الجديدة في ما أرى». وقبل أن أوفّق إلى أخذ نَفَسٍ، قال: «يجب أن لا أنسى أن لدي كلمة أودّ أن أقولها بشأنها» ثم أردف بصوت عال، وما أشدّ ما بدا لي صوته ذاك عالياً! «إيتي بالطفلة التي كسرت لوحها الحجري إلى هنا»! ولم يكن في وسعي أن أتحرّك من تلقاء نفسي. كنت قد أصبت بالشلل، ولكن الفتاتين الكبيرتين اللتين جلستا إلى جانبي أنهضتاني على قدميّ ودفعتاني نحو القاضي الرهيب، ومن ثم أخذت مس تامبل بيدي في رفق وساعدتني على المثول بين يديه، فسمعتها تهمس في أذني قائلة : ‐ «لا تجزعي يا جين، لقد رأيت أن ذلك كان مجرّد مصادفة. إنكِ لن تعاقبي». ونفذت الهمسة الشفوق إلى فؤادي مثل خنجر. وقلت في ذات نفسي: ‐ « لن تنقضي دقيقة أخرى حتى تعتبرني فتاة مرائية وتنظر إليّ في ازدراء.» وعند هذه الإدانة عصف في عروقي غيظ عارم على رِيد، وبروكلهورست، وشركائهما. فأنا لم أكن فتاة من طراز هيلين بيرنز. وقال مستر بروكلهورست مشيراً إلى كرسي عال، لا ظهر له، كانت إحدى العريفات قد نهضت عنه منذ لحظة: «فلتأتني إحداكنّ بهذا الكرسي» . وجيء بالكرسي، فقَال مستر بروكلهورست: «ضعن الطفلة فوقه»! ووضِعت حيث أرادني أن أوضع، وما دريت من الذي وضعني هناك، فلم أكن في وضع يمكنني من ملاحظة التفاصيل. كل ما أدركته هو أني رفعت الى مستوى أنف مستر بروكلهورست بحيث أمسى على مدى ياردة مني، وبحيث انبسط تحتي وتموّج بحر من جلابيب حريرية أرجوانية وبرتقالية متغيّرة ألوانها كل لحظة، وسحابة من ريش فضي . وتنحنح مستر بروكلهورست، وقال ملتفتاً إلى أسرته :«سيداتي، مس تامبل، أيّتها المدرسات والطالبات الصغيرات، هل ترين كلكن هذه الفتاة؟» وقد رأينني من غير ريب. ذلك بأنني أحسست بأعينهنَ مصوبة على بشرتي المسفوعة وكأن تلك الأعين عدسات محرقة. -«أنتن ترين أنها لا تزال صغيرة، أنتن تلاحظن أنها تتمتع بشكل الطفولة العادي. فقد أنعم الله عليها بالصورة التي وهبنا كلنا إيّاها، وليس ثمة فيها عاهة ملحوظة تنبئ بأنها ذات شخصية تلفت النظر. من ذا الذي يستطيع أن يتصوّر أن «الشرير» قد وجد فيها خادماً له وانّخذ منها أداة لتنفيذ مآربه ؟ومع ذلك فيحزنني أن أقول لكنَّ أن هذا هو حالها» وأمسك عن الكلام لحظة شرعتٌ فيها أهدئ أعصابي الثائرة، وأشعر أني اجتزت مرحلة اللارجوع. وأن من واجبي، بعد أن تعذر علي الفرار من وجه المحنة، أن أحتملها في عزم وثبات. واستأنف الكاهن الرخامي الأسود كلامه في نبرة تثير الشجون: «صغيراتي العزيزات، إنها لمناسبة محزنة كئيبة، فقد أصبح من واجبي أن أحذركن فأقول إِنَّ هذه الفتاة، التي قد تكون واحدة من خراف الرب، هي منبوذة صغيرة. إنها ليست عضواً من أعضاء القطيع الصالح، بل دخيلة عليه وأجنبية عنه. إن عليكنّ أن تأخذن حِذركن منها، عليكن أن لا تنهجن نهجها: وإذا دعت الضرورة، فاجتنبن معاشرتها ومرافقتها، حظِّرن عليها الإسهام في ألعابكن، ولا تُجِرْن لها أن تشارك في أحاديثكن. أما أنتنّ، أيَتها المعلمات، فعليكن أن تراقبنها: سمّرن أعينكن على حركاتها، ورُزْنَ كلماتها روزاً حسنا، وتحرّينَ أعمالها، وعاقبن جسدها لكي تنقذن روحها، إذا كان مثل هذا الخلاص ممكناً، في الواقع، لأن هذه ...(وإن لساني ليتلعثم إذ أقول ذلك) الفتاة، هذه الطفلة، هذه البنت المولودة فى ديار مسيحية، والتي هي أردأ من كثير من الوثنيات الصغيرات اللواتي يرفعن صلواتهنّ لبراهما ويسجدن ل «يغرنوط»* .. هذه الفتاة هي : «كذابة»! وران الصمت بعد ذلك، عشر دقائق لاحظت خلالها (وكنت قد استعدت رباطة جأشي استعادة كاملة) جميع سيدات أسرة بروكلهورست يُخرجن مناديلهنَ من جيوبهنّ، ويغطين بها أعينهنَ، بينما راحت السيدة الكهلة تترنح إلى أمام وإلى وراء، وأخذت الآنستان الشابتان تتهامسان: «يا للهول»! واستأنف مستر بروكلهورست كلامه: «ذلك شيء عرفته من ولية نعمتها، من السيدة الورعة المحسنة التي تبنّتها يوم كانت يتيمة وربّتها وكأنها ابنتها، والتي كان جواب الفتاة التعسة على حنانها وكرمها نكراناً للجميل بشعاً ورهيباً إلى حدّ اضطرت معه راعيتُها الممتازة إلى فصلها عن صغارها خشية أن تسري عدوى سلوكها الشائن إلى طهرهم . ولقد أرسَلتها إلى هنا لكي تُعالج، كما كان اليهود القدماء يرسلون مرضاهم إلى بِركة بيثيسدا العكِرة. أيّتها المعلمات، أيتها المديرة، أرجوكنّ لا تَدَعنَ المياه تركد من حولها». حتى إذا لفظ مستر بروكلهورست هذه الخاتمة السَّنيّة، عدّل زر معطفه الأعلى وهمس في آذان أسرته بشيء ما، فنهضن وانحنين لمس تامبل . ومن ثم انسحبت الشخصيات البارزة كلها من الحجرة. في أبهة وجلال. حتّى إذا انتهى قاضيَّ إلى الباب استدار وقال: ‐ «فلتبق نصف ساعة أخرى فوق ذلك الكرسي الذي لا ظهر له. ولتمتنع كل منكن عن التحدث إليها بقية ساعات اليوم» وإذن فقد كنتٌ ثمة منصوبة مرفوعة: أنا التي سبق لي أن أعلنت أني لن أقوى على احتمال عار الوقوف على قَدَميَّ الطبيعيتين، في وسط الحجرة، كنت معروضة لأنظار الجماعة كلها فوق قاعدة الخزي والشّنار. أما الأحاسيس التي غلبت علي؟ ذلك ما تعجز أيما لغة عن وصفه. ...

جين آيير / شارلوت برونتي
 ترجمة: منير البعلبكي 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش