إله سبينوزا الذي يؤمن به أينشتاين


 عندما سُؤل اينشتاين عن الاله قال بأنه يؤمن بإله سبينوزا، لم يكن سبينوزا فيلسوفاً لا أدرياً أو ملحداً، فقد كان يؤمن بإله هو علة أولى لهذا العالم وهذا الإله (الطبيعة) يدير هذا العالم بقوانين محكمة مثل قانون الجاذبية الأرضية، ولا نستطيع الكشف عن ماهية هذا الإله إلا عبر هذه القوانيين وبالمختصر، وسبب اتهامه بالإلحاد هو نقده للمقدسات اليهودية والمسيحية. قيل بأن سبينوزا كان أكثر ديكارتية من ديكارت؛ فديكارت توقف عن تطبيق منهجه عند أعتاب الدين، وكان سبينوزا من الجرأة بمكان أن تجاوز تلك الأعتاب مطبقاً المنهج النقدي والقراءة التاريخية على الكتابات الدينية المقدسة. كانت قراءاتهِ وآراؤه تثير قلق الأوساط الدينية اليهودية المحافظة حتى ضاقت به بعد أن رفض كل محاولات الإغراء، فكانت فتوى الطرد والنبذ واللعنات التي أصدرها الكنيس اليهودي بامستردام في مواجهته في عام 1656، واستتبع هذا الطرد طردا آخر وهو طرد من العائلة والحرمان من الميراث. سبينوزا يقول بوحدة الجوهر؛ أي أن ثمة جوهراً واحداً فقط، ولهذا الجوهر صفتان/حالان وهما: الفكر والجسد وبهذا الفهم يكون هناك تطابقٌ بين الإله والطبيعة، من حيث أن الإله هو ذات الجوهر (=القوانين) المسيّرة لهذا الكون، وأن كل ما هو موجود في الطبيعة هو بمثابة ترجمة دقيقة لتلك القوانين (=امتداد)؛ يقول سبينوزا: “الله ، أعني جوهراً يتألف من عدد لا محدود من الصفات المعبرة كل وواحدة عن ماهية أزليه ولامتناهية واجب الوجود”، “كل ما يوجد إنما يوجد في الله، ولا يمكن لأي شيء أن يوجد أو يتصور بدون الله”. إذاً فإله سبينوزا موجود بدليل وجود القوانين التي تسير وتحكم لأشياء في الكون، وهذه الأشياء كما يشير سبينوزا: “لم يكن بالإمكان أن تنتج عن الله بطريقة أخرى وبنظام آخر غير الطريقة والنظام اللذين نتجت بهما”، وهذه القوانين ليست لها “أي غاية محددة مسبقاً وأن كل العلل الغائية لا تعدو أن تكون إلا مجرد أوهام بشرية”، وهذا الأمر يستتبع أن لا مجال إطلاقاً للقول بالبعث والحساب، وإن كان ثمة معنى للخلود، فالخلود بالنسبة لسبينوزا يكون في أن الإنسان ما هو إلا امتداد للجوهر الأزلي الخالد، ولما كان الإله بحسب توصيف سبينوزا “يتصرف بقوانين طبيعته وحدها”، فإنه لا مجال للخوارق أولتعطيل قوانين الطبيعة الناظمة. إن رؤية سبينوزا للإله تتمثل في “تأليه الطبيعة و تطبيع الإله” وذلك بالمعنى العميق لهذه العبارة لا بالمعنى الشعاراتي، وهذه الرؤية بالذات تجد أرحب قبول من جانب المشتغلين بالعلم الطبيعي، أي بمعنى أن ثمة جوهرا خالدا أزليا، قوانين شاملة لا تتغير ولا تتبدل، وهدف الإنسان كشف هذه القوانين لمعرفة العلل الكامنة، وعندما سئل آينشتاين إن كان يؤمن بالإله، أجاب أنه يؤمن بإله سبينوزا، وقد عرف عنه محبته الخاصة لسبينوزا، لدرجة أن عدداً من دور النشر حاولت مراراً حثه على الكتابة عن سبينوزا إلا أنه كان يرفض في كل مرة. في مقدمة كتابه علم الأخلاق كتب عن الله وقال أعني بالاله “كائناً لا متناهيا إطلاقا، أي جوهراً يتألف من عدد لا محدود من الصفات تعبر كل منها واحدة منها عن ماهية أزلية لا متناهية”. والجوهر هو ما يوجد وهو علة ذاته، ولا يحتاج لعلة خارجية وهو الواجب الوجود والمطلق والأزلي والشامل، وتكمن الأزمة الحقيقية في أن سبينوزا جعل لإله (صفات غير محدودة) لا يعرف منها سوى صفتي الفكر والإمتداد، وجعل هذه الصفات صفات وصفية وليست أشياء مستقلة بذاتها. ونسبة الإمتداد إلى اله هو سبب اتهام سبينوزا بالهرطقة أو الإلحاد، فعندما نتأمل تعريفه للإله ونضيف لهذا التعريف وصفه للإله بأنه ممتد -والإمتداد من صفات المواد- فنحن أمام إله مادي تماماً هو علة ذاته، وهو إله غير مفارق لهذا العالم -عكس إله الديانات السماوية- فإله سبينوزا هو الطبيعة إذا نظرنا إليها من ناحية الإمتداد، والطبيعة هي الله منظورا إليها من اتجاه الفكر، والعلاقة بينهما هي علاقة محايثة لا علاقة مفارقة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كلُّه نكتة كونيّة \ روبرت أدمز

رسالة دوستويفسكي إلى اخيه ميخائيل بعد أن نجى من الاعدام بأعجوبة

قبل بزوغ الشمس \ فريدريك نيتشه

الإرتباك الوجودي الذي ينجم عن حالة الملل

على الطريق \ فريدريك نيتشه

قرد في الأكاديمية \ فرانز كافكا

كتاب مت فارغا \ تود هنري

هل الوعي حرٌّ؟ آناكا هاريس

الجمر البري \ نيكيتا جيل

تجنب الألم \ فيليب فان دان بوسش