المَوتُ رؤية فرويديَّة
لم تكن نظرتنا للموت نظرة سليمة أبداً ، وكنَّا بالطبع نسلِّم بأن الموت هو النهاية الضرورية للحياة ، وأن كل واحد منا مَدين للطبيعة ، وينبغي أن يتوقَّع أنه في يوم من الأيام سيُوفِّي الدَّين. وبالاختصار : فالموت شيء طبيعي لاسبيل للإفلات منه ، ومع ذلك فقد تعوَّدنا أن نتصرف كما لو كان الأمر بخلاف ذلك ، ونظهر من السّلوك الواضح ما يستشفّ منه أننا قد استبعدنا الموت من الحياة ، ووضعناه على الرَّف ، وأخرسناه ، وصرنا نحاول التفكير في أشياء أخرى تصرفنا عن التفكير بالموت. - وبالطّبع فإن الموت الذي نتحدث عنه إنما هو موتنا نحن ، ولكننا في الواقع لا نفكِّر فيه على أنه موتنا نحن، بل إننا كلما تخيلناه تدافعت صوره في مخيلتنا بوصفنا مُتفرجين ، ولذلك فإننا قلنا - من خلال التحليل النفسي - أننا في أعماقنا لا نعترف بأننا سنموت ، وأننا بمعنى آخر نعتقد - في لاشعورنا - أننا خالدون. - أما عن موت الآخرين ، فكل إنسان مُتحضِّر يتجنب الحديث - قدر المستطاع - عن موت الآخرين على مسمع منهم ، اللّهم إلا إذا كان محامياً أو طبيباً أو شيئاً من هذا القبيل ، إذ أن على أولئك أن يتعاملون مع فكرة الموت من وجهة نظر مهنية. وفيما عدا ذلك فلن يُسامح الإنسان المتحضِّر نفسه إذا تطرق تفكيره إلى تمَّني موت الآخرين ، خاصة إذا كان في موت الآخرين بعض النفع له ، كأن يحصل على الحرية ، أو يكسب بعض المال ، أو يفوز بمركز من المراكز. - ومع ذلك فإن هذه الحساسية التي لنا تجاه التفكير في الموت لم تُوقَف يد الموت ، وكلما طالتنا كان تأثرنا بالغاً، وتقوَّضنا بتقوُّض آمالنا. ولقد تعوَّدنا أن نؤكِّد أن الموت يأتي مصادفة في حادث ، أو مرض ، أو عدوى ، أو بفعل الشيخوخة، الخ. وبهذه الطريقة في التفكير كشفنا عن محاولتنا التعديل من معنى الموت ، فبدلاً من النظر إليه كضرورة ، اعتبرناه حادثاً وعَرَضاً. وتبدو فكرة موت الآلاف في نفس الوقت فكرة بشعة جداً ، لكننا لاننظر نفس النظرة لموت شخص واحد ، ولرُّبما كان شعورنا تجاهه شعور المعجبين بشخص استطاع أن يُنجِز عملاً شاقَّاً وينتهي منه ، ونحن نؤجِّل نقده ، ونتجاوز عن أخطائه ، ونهتف قائلين ( الله يرحمه ) ويبدو من هذا التعبير أننا نراعي ذكرى الميت ونحترمها ، مع أنه لن يفيد من ذلك، بل إن هذا الاحترام بالنسبة لمعظمنا أعزّ علينا من اعتبارنا للأحياء. - وتبلغ هذه النظرة التقليدية للموت ذروتها عند إنسان اليوم المتحضِّر فيما نشهده من انهيار تام نُصَاب به كلما اختطف الموت شخص نحبه ، فنشعر أن الكبرياء الذي يملأنا ، والسعادة التي تغمرنا ، كلها قد دُفِنت معه في القبر. ولذلك نجد أننا نُباعِد بين أنفسنا وبين الخطر ، ولا نعرِّض أنفسنا للخطر ، لأننا نعلم مدى حب الآخرين لنا، ومدى مايمكن أن يصابوا به من الحزن علينا ، ولذلك أيضاً فنحن نُبعِد الخطر عن أحبَّاءنا ، ولا نقوى على التفكير فيما يمكن أن تفعله الأم بدون ابنها ، والزوجة بلا زوجها...الخ. وإذن فالإنسان يميل إلى استبعاد شبح الموت عن تفكيره ، وإلى إسقاطه من حساباته ، والمهم عنده - كما يقول المثل - أن يستمر في الإبحار ، ولا يهمّ بعدها إن عاش أو مات.
الحب والحرب والحضارة والموت ، فرويد ، دراسة وترجمة : عبد المنعم الحفني ، دار الرشاد ، القاهرة.
تعليقات
إرسال تعليق