المفاتيح \ مكسيم غوركي
(هذه القصة تكشف عن شخصية هذا الكاتب العظيم، وتؤرخ فترة قاسية من حياته، فضلا على أنها تصور حياة طائفة من الناس أغفل كثير من أدباء الغرب تصويرها)
كان ثلاثتنا: (زيومكا كارجوزا) و (أنا) و (ميشكا) عمالقة بلحى طويلة وعيون واسعة لها زرقة الماء، نبتسم دائماً بثغور فرحة، ويخيل لمن يرانا أننا نترنح من الخمر أبدا. وكنا نأوي إلى بناء قديم خارج المدينة، يكاد من فرط قدمه أن ينقض، ولا يعرف غير الله لم سمي بمصنع الزجاج، ولعل ذلك لعدم وجود لوح زجاجي سليم به. وكنا نتقبل أي شيء دون أن يكون لنا شيء من الخيار، وكنا نكنس ساحات البيوت وننظف الغبار، وننبش المقابر وأكوام القمامة، ونهدم البيوت القديمة، ونقطع الأسوار. وقد حاولنا مرة أن نبني زريبة للعمالقة، إلا أننا فشلنا في ذلك. وكان زيومكا يسعى دائماً للقيام بواجبه، ويتشكك في معرفتنا ببناء زريبة للعمالقة. ولهذا فقد أحظر بنفسه ظهر يوم وكنا في غفوة كل المسامير وقطعتين من الخشب ومنشارا، وكان ذلك كله لصاحب عمل كنا نعمل عنده، وقد طردنا من أجل تلك الفعلة. ولما كنا لا نملك شيئاً يمكن سلبه منا لم يطالبنا بتعويض عن الأضرار التي لحقته بسببنا؛ وكنا في كفاف من العيش؛ وكنا غير راضين بما قسم لنا - وهو أمر طبيعي في مثل هذه الحالة، وتطور هذا الشعور بفعل الزمن فأصبح كراهية لكل ما يحيط بنا. وجرنا ذلك إلى أعمال تهديدية توقعنا تحت طائلة قانون العقوبات. والواقع إننا عشنا في ألم. غير مبالين بالحياة، مرغمين على البحث عن عمل وليس لنا من مظهر الحياة المادي سوى تجاوب ضعيف.
وكنا قد تقابلنا في ملجأ لمن لا مأوى لهم قبل أربعة عشر يوماً من الحادث الذي سأقصه عليك لأنه شائق في نظري؛ وصرنا بعد يومين أو ثلاثة من تعارفنا أصدقاء نسير معاً إلى كل مكان، ويفضي كل منا لصاحبيه بأمله وأغراضه. ويشاطر بعضنا بعضاً كل شيء؛ وبالاختصار عقدنا اتفاقا لا نص له على أن نكافح سواسية مدافعين ومهاجمين الحياة التي ناصبتنا العداء
وفي النهار كنا نبحث بجد عن عمل، في قطع الأحجار، أو الهدم أو الحفر أو النقل، وعندما تتهيأ لنا فرصة مثل هذه كنا نعمل بجد ونشاط.
ولما كان لكل منا غرض أسمى من وضع مواسير المجاري أو تنظيفها - وهو من أشق الأعمال - فقد سئمنا العمل فيها بعد يومين.
ثم أخذ زيومكا يتشكك في ضرورة الحياة.
-"ستصير هذه مجاري لأي شيء؟ للقاذورات؟ أليس في وسع الإنسان أن يلقي بها أمام داره؟ كلا هذا لا يصح فإنها تثير رائحة كريهة. هكذا! القاذورات تثير رائحة كريهة. أعمال عظيمة من أجل أشياء تافهة! فلو أن أنساناً قذف مثلاً بخيارة مخللة، غير كبيرة الحجم، فماذا تبعث هذه من رائحة؟ إنها تبقى يوماً... ثم تختفي... - تتعفن؛ لا، ولكن إذا قذف بجثة آدمي إلى موضع فيه الشمس فإنها تتعفن حقاً.، إلا أن ذلك عمل منكر!"
مثل هذه الأحاديث كانت تفت في عضدنا وتقلل رغبتنا في العمل. وكان ذلك يفيدنا كل الفائدة عندما نعمل بأجرٍ يومي في الأعمال الجزئية. فقد كنا نتقاضى أجرنا دائماً قبل أن نتمم ما عهد إلينا به من عمل. وذهبنا مرة إلى مقاول وطلبنا منه أن نعمل في عمل، إلا أنه طردنا وهددنا أن سوف يضطرنا بمعونة الشرطة إلى إتمام العمل الذي أنقدنا أجرنا عليه من قبل. وكنا نجيبه بأنه لا طاقة لنا على العمل وبطوننا خاوية. وتشبثنا مطالبين بالعمل. وكنا نحصل عليه في أغلب الأحيان.
كان ذلك خطأ منا، ولكن لا نكران في أنه كان مفيدا لنا. ولم يكن في وسعنا أن نصلح شيئاً من نظام الحياة الذي فسد، حتى أصبح القيام بعمل والانتفاع به ضدين.
وكان زيومكا في كل مرة يتولى المفاوضة مع أصحاب العمل، وكان يقوم بها بمهارة ولباقة، وكان يبرهن على صحة مطالبه بهدوء الرجل المهدود القوي الذي يرزح تحت عبء الأعمال التي لا طاقة له بها.
وكان ميشكا يقف صامتا إلى جانبه، ويحملق بعينيه ويبتسم ابتسامة الرضا والسرور، كما لو أنه كان في نيته أن يقول شيئاً ولكن خار عزمه. وكان يندر أن يتحدث، فإذا ما ثمل أخذ في الكلام كمن يلقي خطاباً. ثم ناداه مبتسماً: (أخي!) وكانت شفتاه ترتجفان عجبا، وبقي صوته محتبسا في حلقه، وبدا يسعل ليستر خجله، ثم أمسك رقبته بيده
وقال زيومكا، ولم يطق صبراً: (ما بالك؟)
فقال له:
-"أخي! إننا نعيش كالكلاب، بل أتعس منها. . ولم ذلك؟ لا أحد يدري! ولكن لا بد من أن الله عز وجل أراد ذلك، فكل شيء يسير بإرادته. أليس كذلك يا أخي؟ نعم هو كذلك. ولذا أقول إن ما نلقاه نحن التعساء هو العدل. أليس ذلك تفكيراً صحيحاً؟ وعلى ذلك أفلا يمكن أن تتحسن حالنا؟ يجب أن نرتضي حظنا صابرين... أليس كذلك؟"
ولكن زيومكا أجاب على أسئلة زميله المتعددة المثيرة للخواطر بكلمة مختصرة:
-(يا قليل العقل!)
فانكمش ميشكا وقد عرف خطأه، وابتسم خجلا وبرقت عيناه المنتفختان من الخمر وسكت. ثم قال فجأة:
-آه، لو أن لنا (خنزيراً).
وكنا ذات يوم نتسكع في السوق نبتغي عملاً، فاصدمنا بامرأة عجوز ضامرة قصيرة ذات وجه كثير التجاعيد؛ وكان رأسها يهتز فوق عنقها. وعلى أنفها منظار كبير محاط بإطار غليظ من الفضة، يتأرجح يمنة ويسرة فتعمل يد العجوز لتثبيته في موضعه. أخذت تحدق فينا النظر؛ وقد وجهنا إليها أنظارنا طامعين في حديثها.
وسألتنا: أليس لكم عمل؟ أتبحثون عن عمل؟
ولما أجابها زيومكا في احترام بالإيجاب، قالت:
- حسناً! عندي حمام قديم أريد هدمه. كما أريد أن تنظف النافورة... فكم من الأجر تطلبون؟
فرد عليها زيومكا في احترام أيضاً قائلاً:
- يجب أولاً يا سيدتي المحترمة أن يرى الإنسان حجم الحمام، وكذلك النافورة، فلكل نافورة شكلها الخاص، إذ منها ما هو عميق جداً وطلبت منا العجوز أن نرى النافورة. ولم تمض ساعة حتى كنا نعمل مجدين بالمناشير والمعاول في هدم الحمام. فلما انتهينا من عملية الهدم هذه وتنظيف النافورة تقاضينا مبلغاً قدره خمسة روبلات وهو الأجر الذي اتفقنا عليه. وكان الحمام مقاماً في ركن مهجور من الحديقة، وعلى مقربة منه كوخ خشبي تظلله أغصان شجر الكرز. وقد رأينا ونحن نهدم بناء الحمام العجوز جالسة في ذلك الكوخ عاكفة على قراءة كتاب كبير وضعته على ركبتيها... وكانت من وقت لآخر ترمينا بنظراتها الحادة، وكان الكتاب يهتز فوق ركبتيها فيلمع القفل الفضي للكتاب.
ليس بين الأعمال أسهل من التخريب والهدم. وقد استفرغنا جهدنا وسط سحابة من الغبار. وكنا نعطس ونسعل ونمخط ونفرك أعيننا حين سقط الحمام وتناثرت أجزاؤه، فقد كان عتيقاً ناخراً كصاحبته.
(هيه يا شباب، فنجيبها: واحد، اثنان، ثلاثة، هوب!) هكذا كان زيومكا يصدر أوامره. وهكذا تساقطت كتل البناء الواحدة تلو الأخرى.
وتساءل ميشكا وهو مطرق الرأس مستنداً إلى الفأس مجففاً عرق جبينه:
- ما عساه يكون هذا الكتاب؟ إنه لكتاب ضخم! ولن يكون الإنجيل إذ هذا أضخم منه.
وسأله زيومكا مستفسراً:
- وماذا يهمك من ذلك؟
- يهمني؟ كلا! إنني أميل لاستماع من يقرأ الكتب... أعني الكتب الدينية. وكان في قريتنا جندي أسمه أفريكان يقرأ كثيراً في الإصحاح، وكان وقع ذلك في أذني كالموسيقى - ما أجمل ذلك!
وسأله زيومكا وهو يشعل لفافة التبغ:
- والآن؟
- لاشيء. لقد كان جميلاً، على رغم أن الإنسان لا يفقهه. إنه لكلام جميل... وقد لا يسمع الإنسان كلاماً مثله في الشارع. نعم إن الإنسان لا يعرف له معنى، ولكنه يشعره بأن ذلك له صلة بالروح.
وهزئ زيومكا منه قائلاً:
- هذا ما لا أفهمه، إن الإنسان ليرى فيك من جديد غباء الحذاء القديم.
فأجاب الأخر قائلاً:
- إنني واثق من أنك تميل إلى السباب.
- كيف السبيل إلى مخاطبة مثل هذا الحمار؟ إنه لا يفقه شيئاً غير ذلك: هيا، أعمل معولك هنا - انتبه... هوب.
وتقوض بناء الحمام شيئاً فشيئاً وكثرت الأنقاض، وقد أحيطت بغمامة من الغبار كست أوراق الأشجار القريبة
وبدأ ميشكا ثانية:
- هذا الكتاب محلى بالفضة.
ورفع زيومكا رأسه، وصوب نظره إلى الكوخ. وقال في اقتضاب:
- هو كذلك على الغالب.
- إنه لا شك الإنجيل.
- ليكن ذلك. وماذا يهمك من أمره؟
- لاشيء!
- لا شيء هذه ملء جيوبي. ولكن إذا كنت تريد أن تستمع إلى ما في الإنجيل فاذهب إلى العجوز وقل لها: أقرئي لي يا سيدتي المحترمة شيئاً من الإنجيل، إنه لا سبيل لنا غير ذلك؛ إننا لا نذهب إلى الكنيسة لأن أبداننا قذرة وملابسنا بالية، إلا أن لنا روحاً كبقية الناس... هيا أذهب.
- هل أذهب حقاً؟
- نعم، أذهب.
وقذف ميشكا بمعوله وأصلح ثيابه ومسح الأقذار عن وجهه بكمه، وقال زيومكا في نفسه وابتسامة السخرية على فمه:
- ستركلك برجلها كأحقر دب.
غير أنه تلهف على متابعة خطوات صاحبه بالنظر، وسار هذا بخطى ثقيلة وابتسامة الخجل والهدوء مطبوعة على وجهه، ورفعت العجوز رأسها وصوبت نظرها إلى ذلك المتسكع القادم إليها، وكانت الشمس تضيء زجاج منظارها وإطاره الفضي فيومض ولم تركله برجلها برغم أن زيومكا تنبأ بذلك، وكان حفيف الشجر يحول دون سماع ما تحدث به ميشكا إلى صاحبة المنزل، ولكنا رأيناه يخر فجأة أمام قدميها ويجلس على الأرض حتى يكاد أنفه يمس الكتاب، وكان وجهه يدل على الهدوء والرزانة، وقد رأيناه وهو يحاول ما استطاع أن ينفخ في لحيته ليبعد عنه الغبار، وأخيراً استقر في مجلسه ومد عنقه ووجه نظره إلى يد العجوز التي أخذت تقلب صفحات الكتاب صفحة صفحة.
- أنظر إليه فهو كالكلب غير المهذب! له الآن أن يستريح. فهل نذهب نحن كذلك؟ وماذا نعمل هنا وحدنا، وهو يجلس هادئاً بينما نحن نعمل من أجله وننهك قوانا. هيا، سر إلى الأمام.
وبعد دقيقتين جلسنا إلى جواره واحدا عن يمينه والآخر عن يساره، ولم تنبس العجوز بكلمة ساعة قدومنا، ولكنها كانت تحدق فينا وتقلب صفحات الكتاب كمن يبحث عن شيء بعينه، وكانت السماء صافية تشيع السرور في النفس، وكان النسيم العليل يهب من وقت لآخر مداعباً أوراق الشجر، وانساب من هذا وذاك سحر إلى قلوبنا التي كانت تتهيأ للمحبة والسلام، وبدأ يستيقض فينا الإحساس بأشياء غامضة مجهولة إلا أنها قريبة منا، وأخذت أرواحنا تتحرر من الأدناس
(بولص، خادم المسيح)
بهذا رن صوت العجوز، وكانت ترتعش وقد هدها الكبر، غير أنها كانت خاشعة، ورسم مشيكا الصليب، وأخذ زيومكا يتحرك من جنب إلى جنب ليجد مكاناً في الأرض مريحاً، وكانت العجوز ترمقه بعينيها دون أن تمسك عن القراءة.
وكان زيومكا أثناء ذلك، وهو الملحد الحقيقي، يتثاءب عالياً، فنظر إليه صديقه نظرة احتقار ثم اطرق برأسه؛ وحدقت العجوز بنظرها في زيومكا دون أن تمسك عن القراءة، فخجل من ذلك ومسح أنفه وأدار عينيه ليرى نتيجة تثاؤبه فلم تكن إلا تأوهاً خاشعاً.
ومضت دقائق هادئة إذ كان لصوت القارئة المرتل أثر في الطمأنينة:
- إن غضب الرب ينزل من السماء على كل غير رباني.. و..
وصرخت القارئة فجأة في وجه زيومكا: (أتريد...؟)
فأجاب في استكانة:
- أنا... أنا... لاشيء! تابعي القراءة؛ إنني أستمع.
فسألته العجوز غضبى:
- لماذا تلمس القفل بيديك القذرتين؟
- إنه ليهمني... إن صنعه جميل جداً... إنني أفهمه، كنت قبلاً صانع مفاتيح، وأردت أن أجسه...
وقالت العجوز:
- انتبهوا، ماذا قرأت لكم؟
وقال زيومكا:
- إنني أستطيع أن أعيده... إنني أفهم.
وقالت العجوز:
- والآن؟
- لقد كنت ترتلين تعاليم الدين، وتذكرين عدم الإيمان بالرب. المسألة في غاية البساطة، فكل شيء من ذلك حقيقي. لقد كان ذلك يحز في قلبي.
ونظرت العجوز إلينا وهزت رأسها وقالت:
- إنكم مفقودون... كالحجارة... ارجعوا ثانية إلى عملكم.
وقال ميشكا وعلى فمه ابتسامة المعترف بذنبه: (يظهر إنها غضبى)
وحك زيومكا رأسه وتثاءب والتفت إلى العجوز دون أن يراها وسار في طريقه وأطرق مفكراً:
- إن قفل الكتاب من الفضة.
وسرت في وجهه قشعريرة وقضينا الليل في الحديقة إلى جانب أنقاض الحمام الذي هدمناه عن آخره في ذلك اليوم. وفي ظهر اليوم التالي أتممنا تنظيف النافورة، وقد ازدادت قذارتنا وتبللنا بالماء، وانتظرنا أمام باب المنزل في انتظار أجرنا، وكنا نتحدث عن غذاء وعشاء دسمين نتناولهما قريباً؛ ولم يكن لواحد منا أي رغبة في الحديث عن شيء غير ذلك.
وفرغ صبر زيومكا وقال بصوت أجش:
- والآن أين استقرت يا ترى هذه الغول الشمطاء؟ لقد هلكت!
وقال ميشكا وقد هز رأسه معاتباً صديقه:
- لقد بدأ يسب من جديد. ولماذا يسب يا ترى؟ هذه العجوز امرأة طيبة تخاف الله، وهو يسبها - هذا هو خلق الرجال!
وابتسم زيومكا وقال له إنه شديد الحساسية نحو ذلك الطائر الشارد، تلك العجوز... هذه...
وقضى ظهور العجوز على هذا الحديث الطريف. وتقدمت إلينا وأخرجت النقود وقالت في احتقار:
- هاهي ذي نقودكم فخذوها وارحلوا من هنا. كنت أريد أن أعطيكم أخشاب الحمام فتقطعوها قطعا صغيرة، ولكنكم لستم أهلا لذلك.
وأخذنا نقودنا صامتين وذهبنا ولم نحظ بشرف تقطيع أخشاب الحمام إلى قطع صغيرة للوقود
وقال زيومكا وقد خرجنا من باب الحديقة:
- أيها البشع العتيق أنظر إلى هذه! ألا أستحقها يا قبيح الوجه؟ الآن يمكنك أن تسبح باسم ذلك الكتاب.
وأدخل يمينه في جيبه وأخرجها بقطعتين من المعدن اللامع وأرانا إياهما كمن كتب له النصر
وجمد ميشكا في موقفه، واشرأب عنقه ليرى ما في يدي زيومكا. وسأله حائراً:
- هل خلعت القفل؟
- هذا ما فعلته! إنه من الفضة الجيدة. ويمكن لأي إنسان أن يحتاج إليها. وهي تساوي على الأقل روبلا.
- هيه، وما دمت قد فعلت ذلك فارمها بعيداً عني! يا للخجل!
- سأفعل ذلك.
وتابعنا السير في صمت. وقال ميشكا مفكراً في الأمر. تمت بمهارة، انتزعها ببساطة. ثم قال:
- نعم لقد كان كتابا جميلا وستحقد العجوز علينا.
وقال زيومكا هازئاً:
- إنها لن تسترجعنا مرة أخرى لتقدم لنا ثناءها.
- وبكم تبيعها؟
- بتسعة أعشار الروبل - هذا أقل ثمن، لا أقل من ذلك فلسا. إنني أخسر فيها. أنظر لقد انقصف لي ظفر.
وقال ميشكا في خجل:
- بعني إياها.
- أإياك أبيعها؟ أتريد أن تجعل منها أزراراً لقميصك؟ أنظر! إنها تكفي لعمل زوج جميل من الأزرار - وهي تليق بك على ثيابك الخلقة.
ثم أخذ ميشكا يستعطفه:
- كلا إنني جاد غير هازل. بعني إياها
- اشترها، كم تدفع؟
- خذ ما تشاء، ما هو القدر الذي أحصل عليه من شركتي في العمل؟
- روبل واحد وعشرون كوبكا.
- وكم تريد أن تأخذ فيها؟
- يا مغفل! ماذا تريد أن تفعل بها؟
- بعني إياها. أرجو ذلك.
وانتهت عملية البيع في النهاية، وأصبح القفل ملكا لميشكا بعد أن دفع تسعين كوبكا ووقف ميشكا في مكانه وقلب القطعتين في يده وحدق فيهما. ونصحه زيومكا هازئاً بأن قال:
- علقهما في انفك؟
وأجاب ميشكا جادا:
- ولم ذلك؟ إنني لا أريدهما. سأرجعهما إلى العجوز وأقول لها:
- هاك يا سيدتي العزيزة المحترمة. لقد أخذناهما سهوا معنا، فأرجعيهما إلى ما كانا عليه.
- ولكنك انتزعتهما فكيف إصلاحهما؟
وسأله زيومكا وقد فتح فاه:
- أتريد حقاً أن تحملهما إليها يا شيطان؟
- نعم ، ولم لا؟ أنظر إن مثل هذا الكتاب يجب أن يبقى كما هو. ولا يجوز للإنسان أن ينزع منه قطعة. وسوف تغضب العجوز وتحزن... وسوف تموت عما قريب. هذا ما أردت. فانتظر لحظة يا أخي فسأعود سريعاً.
وقبل أن نتمكن من إيقافه اختفي وانعطف بخطوات سريعة . وقال زيومكا في غضب وهو يفكر في أثر هذه الواقعة ونتائجها المحتملة:
- ما أضعف هذا الرجل وما أكثر تغفيله؟
ثم أخذ يؤكد لي في كل جملة خطأه
"ولكن الآن انتهى كل شيء . لقد أوقعنا في الشرك. ولعله الآن جالس متكئ أمام العجوز. وقد لا يغيب عنها أن تستنجد بالشرطة"
"هذا مثل مما يتوقعه الإنسان من مصاحبة هذا الوغد. إنه حقا يدخل الشخص إلى السجن من أجل شيء تافه. هذا الكلب! هل رأيت رجلاً له مثل هذه النفس الدنيئة، يبغي أن يُلقي بأصدقائه إلى التهلكة، يا إلهي! أهذا هو جيل اليوم؟ هيا بنا، لم هذا الانتظار؟ أتريد أن تبقى هنا؟ انتظر إن شئت، ليخطفك عفريت من الجن أنت وكل الأوغاد من أمثالك. ذلك الوغد! ألا تريد أن تذهب معي ؟ هيا"
ووكزني زيومكا في جانبي وسبني ومضى لسبيله
وكنت أريد أن أعرف ماذا جرى لميشكا عند صاحبة آخر عمل قمنا به. فذهبت ثانية إلى ذلك المنزل، وكنت أعتقد أن لا خطر في ذلك، وأن السوء لا يمسني من جراء هذا. ولم يخب ظني، ووصلت المنزل وأخذت أنظر من خلال الحواجز وقد رأيت وسمعت ما يلي:
كانت العجوز جالسة على سلم المنزل ممسكة بقطعتي القفل الفضي بيدها وهي تنظر إلى ميشكا من خلال منظارها بدقة كما لو كانت تريد أن تتغلغل في صميمه. وكان لعينيها الحادتين بريق قوي . وقد ارتسمت على طرف فمها ابتسامة خفيفة رخوة تحاول إخفاءها: هي ابتسامة المغفرة.
وتبين من خلف العجوز ثلاثة رؤوس: امرأتان إحداهما شديدة حمرة الوجه وعلى رأسها منديل زاهي الألوان، والثانية عوراء، وقد وقفت خلف رجل عريض المنكبين وإمارات وجهه تدل على أنه يريد أن يقول:
- أسرع من هنا يا صديقي! أسرع بقدر ما يمكن.
وكان ميشكا يتحدث في ارتباك:
- لقد كان كتاباً عظيما!! إنهما نذلان! أما أنا فقد كنت أذكر ربي . هذا هو الحق. وهذا ما يجب قوله. إننا تعساء ورجال سوء أنذال - ثم كنت أعود فأفكر في المرأة العجوز الطاعنة في السن. ولربما كان سرورها الوحيد في كتابها هذا - ذلك ما ظننته. وأردت أن أهيء للعجوز المتدينة سروراً وأن أرد إليها أشياءها: وقد اكتسبنا بحمد الله شيئاً نقتات به. فالوداع يا أخوتي. إنني أريد الذهاب الآن.
واستوقفته العجوز وقالت له:
- انتظر! هل عرفت ما قرأته لك البارحة؟.
- أنا؟ أَنّى لي ذلك؟ إنني استمعت إليك ولكن أي استماع؟ فهل لآذاننا قدرة على استماع كلام الرب؟ إننا لا نفهم مثل ذلك.
وقالت العجوز:
- أهكذا؟ ألا تنتظر لحظة أخرى؟
وتململ ميشكا وأخذ كالدب يضرب الأرض برجليه. فإن مثل هذا الحديث لا طاقة له به.
- هل لي أن أقرأ لك شيئاً قليلاً؟
- . . . . . ولكن صديقَّي ينتظران.
- دعهما ينتظران، إنك رجل طيب. دعهما يسيران حيث شاءا.
وقال ميشكا بصوت خافت: - حسناً.
- إنك لن تسير معهما بعد الآن؟ أليس كذلك؟
- لا.
- هذا هو الصواب. إنك طفل كبير على رغم مالك من لحية تنزل إلى وسطك! هل أنت متزوج؟
- بل أعزب. إن زوجتي توفيت.
- ولم تشرب الخمر؟ انك تشرب طبعاً؟
- نعم.
- ولماذا؟
قال ميشكا متضجراً:
- ولماذا أشرب الخمر؟ لتغفيلي. إنني مغفل ولهذا أشرب. ولو كان للإنسان عقل لما جرؤ على تحطيم نفسه بيده.
- إنك على حق. فاعمل على أن تكون عاقلاً. حسّن من سيرتك وأصلح من أمورك.
اذهب إلى الكنيسة واستمع إلى كلام الرب ففيه كل الحكمة.
وتأوه ميشكا وقال: -سأفعل.
- هل لي أن أقرأ لك شيئاً؟
- نعم، تفضلي.
وأتت العجوز بالإنجيل، وقلبت صفحاته، وبدأ صوتها يدوي، ورمى ميشكا برأسه إلى الوراء، وحك بيده ذراعه اليسرى "وهل تظن أيها الإنسان أن في وسعك التهرب من حكم الرب؟"
وقاطعها ميشكا وكأنه يجهش بالبكاء:
- سيدتي المحترمة، دعيني أذهب، أرجو ذلك محبة في الله، سآتي مرة أخرى عن طيب خاطر واستمع. أما الآن فأني جائع جدا. إننا لم نتبلغ منذ أمس.
ودقت العجوز صدرها، وقالت:
- أذهب! ابتعد!
ورن صوتها المزعج في الفضاء، واندفع ميشكا مسرعا نحو الباب بعد أن قال لها:
- أشكرك شكرا جزيلاً أيضا.
وتمتمت العجوز تقول:
- أرواح مغلقة! قلوب غلف كالحجارة!
وبعد نصف ساعة جلسنا في المطعم، وشربنا الشاي وأكلنا الخبز الأبيض، وقال ميشكا وهو يبتسم إليّ بعينه التي تشبه عيون الأطفال سذاجة وفرحا:
- كنت أشعر كأن حمى قد انسابت في جسمي، وقد وقفت هنالك وفكرت في القول:
- أي ربي لم جئت إلى هنا؟ إنه العذاب! وبدأت هي الحديث:
- هل هؤلاء آدميون! إننا نريد أن نكون شرفاء معهم ونهيئ لهم ما توحي به ضمائرنا، إلا أنهم يفكرون في غير ذلك: يفكرون في متاعهم. فقلت لها:
- يا سيدتي المحترمة، هذا هو قفلك أرده إليك ولا تغضبي...
ولكنها قالت:
- انتظر، ابق هنا، أذكر لي أولاً لم أحضرته؟ وبدأت تخزني بكلماتها، ولقد سئمت كثرة أسئلتها... هذه هي الحقيقة.
وتابع الابتسام الهادئ المريح واهتاج زيومكا وقال له جادا:
- أولى لك يا صديقي أن تموت! وإلا التهمك في الغد الذباب من فرط سخف أفكارك.
- إنك تتحدث بغباء دائماً. تعال، نريد أن نشرب كأساً لنسدل على المسألة الستار.
وشربنا كأساً على نهاية هذه الحادثة العجيبة.
تعليقات
إرسال تعليق