جرثومة الكذب على النفس
مقالة فلسفية قصيرة تحت عنوان جرثومة الكذب على النفس
"ما ينبغي للمرء أن يكذب على نفسه، إن جميع الناس يعيشون على هذا النحو، و قد لا يكون من الممكن أن يعيشوا على غير هذا النحو "
فيودور دوستويفسكي
الأخوة كرامازوف جزء 1 ص 313
و كأن دوستويفسكي يطرح منذ البداية قاعدة عامة ، تنطبق على جميع البشر بدون استثناء ، فهو هنا لا يستثني أحدا " جميع الناس " ، إنه يضع " الكتلة البشرية " داخل تصنيف واحد لصفة مشتركة بين " الكل " ، و هي " الكذب " ، بيد أن دوستويفسكي لا يشير إلى " الكذب " الذي ألفته البشرية منذ آلاف السنين و هو كذب " الآخر " على " الآخر " . بل كذب من نوع جديد ، كذب مريع و هو " الكذب على النفس " .
أفظع كذب هو الكذب على النفس " إن جميع الناس يعيشون على هذا النحو " .
بمعنى " الكل " لا يقفون أمام مرآة أنفسهم . " الكل يكذب " على أنفسهم . ما معنى أن نكذب على أنفسنا ؟ بل لماذا نكذب على أنفسنا ؟
يقول دوستويفسكي " لقد تعلموا الكذب " بمعنى لقد تمرسوا على الكذب أي لقد تعودوا على الكذب، و من ثمة " أحبوا الكذب "
_ دوستويفسكي أي لقد تعلقوا به ، و بصورة أدق لقد أصبح الكذب جزءا لا يتجزء من كينونتهم .
إلا أن الكذب طالما كان ، و مازال أمرا فظيعا . إنه "جرثومة ".
" ولكن جرثومة الكذب هذه نفذت إلى قلوبهم، وأعجبتهم. وبعد قليل وُلدت القسوة " _ دوستويفسكي .
بمعنى أن الكذب هو نوع خبيث من أنواع جراثيم الروح . الكذب جرثومة الروح . أي مفسد لصحوة، و صفوة " اللوغوس " . أو " الأنا " ، أي " الأنا أفكر "
و لفظة " القسوة " هنا تشير إلى " الخراب " أي إلى " الدمار " القسوة بمعنى أن أغلق جميع النوافذ على " الآخر " القسوة على " الذات " ، على " الأنا " القسوة هي تعنيف" للأنا موجود " و هي رفض ضمني لكل أنواع " الحقيقية " ، و من ثمة تكريس لعالم أحادي أي أحادي التفكير ، المعتقدات ، العيش إلخ ...
القسوة لا تنتج حقيقة بقدر ما تزرع بذور " الدوغما " ، و " التعصب " . .
إن الكذب على " النفس " هو نوع خبيث من السخرية على " الذات " ، هو تفكيك لقيمة الإنسان بإعتباره مهمة . كل من يكذب على " نفسه " فهو يدنسها بنوع قذر من " الدوغما " أي التعصب ، و الجمود و رفض الوقوف أمام " المرآة " بمعنى أمام " أنفسنا " ، و كل من لا يقف أمام " مرآة ذاته " لا يمكن له أن " يتكلم " " تكلم حتى آراك " _ سقراط
بمعنى تكلم من دون أن تكذب على " المرآة " أي بدون أن تخجل من ذاتك .
إن دوستويفسكي قد حسم الأمر منذ البداية " إن الجميع يعيشون على هذا النحو " _ دوستويفسكي، فالكذب على النفس لا يخضع أمام أي عقد إيتيقي، و لا يمكن محاصرته، أو فرض عليه أي سلطة تأديبة، فهو كذب خجول، هش، أو بإعبارة أدق " المرأة القبيحة تلقي اللوم عل المرآة " _ تولستوي
أي إن الكذب على " النفس " يخترق جميع حدود الذات، و ينتهك صلاحيات المرآة، المرآة التي لا تعرف الكذب يتم إلقاء اللوم عليها، لنكذب على أنفسنا مرة أخرى من دون أي خجل إيتيقي .
إن الكذب على " النفس " هو إعلان ل"موت الذات، إنه تدريب مريع لقتل العلاقة الرومنسية بين الذات كقيمة إنسانية، و بين الكينونة كقيمة روحية .
الكذب على " النفس " هو عصيان عنيف عصبي ضد الذات الإنسانية، و بعبارة أدق ضد المناعة الروحية للنفس. من يكذب على " نفسه " فهو يهددها بنوع من الإكراه اللأخلاقي ضد حريتها في الولوج إلى الحقيقة "
و يضعها أمام مخالب " اللامعنى " ، و من ثمة يتم تدمير " النفس " داخل نسق " التكرار " أي " تكرار " فعل " الكذب " ، لتصبح " النفس " بدون أي معنى روحي ، أو " أخلاقي " . لتدخل عالم " الأشباح " ، أي عالم " الخديعة و الزيف " . عالم خال من الأرواح الصادقة الطيبة ، عالم " الكراهية تنبع من القلب " _ آرثر شوبنهاور
. أي عالم " الأنانية تحكم العالم " _ آرثر شوبنهاور .
أي إن الكذب هو من يتحكم في العالم و أن الأنانية و الكذب وجه لعملة واحد .
إننا اليوم نعيش مع مسخ بشري غير قادر على إرساء علاقة روحية مع " نفسه " بمعنى علاقة تحضر فيها " النفس " بجميع مقوماتها ، و سيماتها الأخلاقية ، و اللأخلاقية في ساحتها الميتافيزيقية من دون أن تتعرض إلى أي نوع من الكذب على " نفسها " . و كأن " الكتلة البشرية " لم يعد في إمكانها أن تستوعب ذاتها بمعزل عن أي إدعاء " كاذب " . و كأن " الكذب " هو من يحدد ماهيتها الإنسانية أي ما به يكون الإنسان إنسانا. و كأن البشرية غير قادر على التعايش مع الإنسان كما " هو " . و كأنها تبحث عن سراب مسرطن يلقي بها ضريرة على الأرض . إن كذب البشرية على " نفسها " قد أفسد كل إمكانية جميلة لنأسس فيها لعالم رائع . و قد خرب جل الأفق الروحية التي من خلالها يمكن أن نلتقي فيها بالآخر .
تعليقات
إرسال تعليق