الوجوديّ المنسيّ \ كولن ويلسون
- ماثيو كونيام
ترجمة: لطفيّة الدليمي
ما انفكّ كولن ويلسون يمثّل في المخيّلة الشعبيّة ذلك الكاتب الّذي تناول جملةً من الموضوعات المتباعدة - بل حتّى المتنافرة أحياناً - في كتاباته الكثيرة : الجريمة و الانحراف السلوكيّ ،الظواهر الخارقة للوعي البشريّ الاعتياديّ ، حفريّات المعرفة ، الوجوديّة الجديدة و سايكولوجيا الوجود البشريّ ،،، و لكن لا تزال طائفةٌ عريضة من القرّاء الأكبر عمراً تذكرُهُ في هيئة ذلك الشاب الطموح ذي الستّة و العشرين عاماً ، مؤلّف كتاب "اللامنتمي" الّذي نُشِرَ عام 1956 و الّذي حاز قبولاً واسعاً بين الأوساط الفلسفيّة و سواها و أطراه الكثيرون من كبار النقّاد و مراجعي الكتب إذ رأوا في الكتاب تحليلاً ممتازاّ لموضوعة الاغتراب الفلسفيّ و السايكولوجيّ و الذهنيّ السائدة في القرن العشرين مع استعراض شامل لأنماطٍ عديدة من الشخصيّات المهمّة الّتي عدّها ويلسون نماذج معياريّة في الاغتراب و اللا إنتماء الفلسفيّين . قذف " لا منتمي " ويلسون بمؤلّفه في أحضان الشهرة و الأضواء مبكّراً و بات ويلسون أيقونة قياسيّة للشابّ الصغير الغاضب و الناقم على مجتمعه . و لكن لسوء الحظّ فإنّ محصّلة الشهرة العريضة و الأضواء البرّاقة الّتي سلّطت على عمل ويلسون مع ما رافقها من سطحيّة فجّة في تناول عمله من قبل الأوساط الصحفيّة الّتي تسعى للمكاسب الآنيّة شكّلت ارتداداً ربّما أثّر كثيراً في عمل ويلسون اللاحق الّذي ظهر عام 1957 تحت عنوان "الدين و المتمرّد Religion and the Rebel " "ترجم في عالمنا العربيّ و ظهر في الأسواق بعنوان سقوط الحضارة ، المترجمة" : فقد قوبل العمل بانتقادات شنيعة و قاسية للغاية من قبل ذات النقّاد الّذين كالوا المديح و أسهبوا في إطراء عمل ويلسون الاوّل و منذ ذلك الحين تُركَ ويلسون في البرّية ليقيم أوده و يصارع الوحوش بنفسه من غير مُعين !! و لكن الرّجل مع كلّ هذا لم يركن إلى الخنوع و لم يتوقّف يوماً عن الكتابة و أنجز أعمالاً لاحقةً كثيرة تستحقّ قراءة متفحّصة و جدّية و بخاصّة تلك الّتي كتبها في العقد الستّيني من القرن العشرين قبل أن تفرض اشتراطات سوق النشر شروطها القاسية عليه إلى حدّ جعله يحيد باتّجاه الأعمال الّتي تلقى رواجاً شعبيّاً و الّتي كانت ربّما أقلّ رصانة من سابقاتها ، كما أنّ الرجل لم يستطع كبح جماح هواه الجارف و شغفه الثابت في مقاربة موضوعات أنماط الوعي غير الاعتيادي العابر للوعي اليومي و البديهيّ ، و الإحساس الفائق ، و التصوّف .عُدّت أفكار ويلسون : ذلك الوجوديّ الإنكليزيّ الّذي يندر مثيله بين الوجوديّين الإنكليز ، غريبة و صادمة و غير متناغمة مع التيّار الفلسفيّ العام السائد في العالمين الأنكلوسكسونيّ و الفرانكوفوني معاً في القرن العشرين ، و لطالما ازدرى الرّجل ما رأى فيه صياغة متيبّسة مفتقدة إلى الشغف و الّتي تظهر في أدبيّات التيّارات الفلسفيّة السائدة بكلّ مدارسها : الوضعيّة Positivism ، التحليل الّلغوي ، الاختباريّة Empirical ،،، و حاجج الرجل أن ديكارت لا يمثّل نقطة الشروع في انطلاق الفلسفة الحديثة بل قادها إلى طريق مسدود ، و لم يحمل تقديراً عالياً لأعمال برتراند راسل و عدّه طالب مدرسة متفوّقاً ذا أصول أرستقراطيّة حسب !!! . اشترك ويلسون مع الفيلسوف الشهير أي. جَي. آير A. J. Ayer لبرهة من الوقت في ممارسة لعبة مسلّية لكليهما تقضي بأن يكتب كلّ منهما مراجعة نقديّة قاسية متى ما نشر أحدهما كتاباً و مضيا في استمراء هذه اللعبة حتّى توقّف ويلسون عن كتابة هذه المراجعات فكان على آير أن يتوقّف هو الآخر عن كتابتها .
كانت العلامة المميّزة الّتي وسمت أعمال ويلسون و أفكاره منذ بواكير أعماله الأولى هي نفوره الثابت من الوجوديّة العدميّة القاتلة الّتي كان يروّج لها كلٌّ من سارتر و كامو في الضفة الفرانكوفونية المقابلة للساحل الإنكليزيّ رغمَ أنّه كان متعاطفاً إلى أبعد الحدود مع انشغالاتهما الفلسفيّة و طرائقهما في الفكر و التحليل . كانت الوجوديّة بالنسبة إلى ويلسون الحركة الفلسفيّة الأكثر أهمّية في القرن العشرين ، لكنّه رأى انّها انحرفت عن مسارها منذ عام 1927 على يد "مارتن هايدجر Martin Heidegger " في كتابه "الوجود و الزمان Being and Time" عندما حاد عن فكرتها الأوّليّة المُؤسّسة على ظاهراتيّة هوسرل ، و هنا توجّب على ويلسون أن يعود إلى أصل المنبع الظاهراتي لفكر هوسرل و يشرع تبعاً لذلك في بناء هيكليّة جديدة للوجوديّة : وجوديّة جديدة مختلفة نوعيّاً عن وجوديّة سارتر و كامو ، ثم مضى الرجل في التعريف بهذه الهيكليّة الجديدة للوجوديّة في كتابه "اللامنتمي" و سلسلة الكتب الّتي تنحو في اتّجاهه ذاته حيث عرض فيها وجوديّةً مغلّفة بحسّ رقيق من التفاؤل على العكس من النزعة العدميّة القاتلة الّتي وسمت الوجوديّة في نسختها الفرانكوفونيّة ، ثمّ شرع ويلسون في إلباس ثوبٍ من العقلانيّة و المحاكمة المنطقيّة للحس التفاؤليّ هذا . يبدو ويلسون متفّقاً مع سارتر و كامو في النظرة المفاهيميّة الأساسيّة عن طبيعة الوجود البشريّ و لكنّه تقاطع معهما عندما قفزا إلى الاستنتاج الكيفيّ المحض بأّنّ الحياة هي بالضرورة تراجيديا عدميّة : فقد جادل الرجل انّ هذا الاستنتاج محض قناعة شخصيّة لا يدعمها أيّ منطقٍ عقلانيّ و لا ينبغي أن ترقى بأيّ حال من الأحوال إلى مرتبة اعتبارها حقيقة موضوعيّة ناجزة لكونها تعكس وجهات نظر الفيلسوفين و رؤيتهما الفلسفيّة و السايكولوجيّة الشخصيّة حسب فقد عُرِف عن ويلسون كونُهُ شابّاً مفعماً بالتفاؤل و لم يكن له متّسعٌ من وقت يقضيه و هو حبيسُ الدياجير المظلمة لأقبية سارتر و كامو الوجوديّة في الوقت الّذي كان فيه الرجلان ذوي نزعاتٍ تشاؤميّة حالكة ، و لم تكن وجوديّتهما الّتي لطالما بشّرا بها سوى استجابةٍ عاطفيّة لتركيبتهما السايكولوجيّة الميّالة إلى التشاؤم.
الميزةُ الثانية الّتي تسمُ أعمال ويلسون هي افتتانهُ و انسحارهُ بالمديات الّتي يمكن أن تبلغها القدرة البشريّة و تلك إحدى المظاهر المبكّرة الّتي عكسها شغفهُ الواضح بالظواهر غير الاعتيادية السائدة في الحياة الاعتيادية حتّى لكأنّ الرجل بدا ممسوساً على الدوام بفكرة أنّ الوعي اليوميّ الاعتيادي يعمل في مستوىً أدنى بكثير ممّا هو خليقٌ ببلوغه ، و أنّ أصل العبثيّة الوجوديّة الّتي ينادي بها البعض و يروّج لها باستماته إنّما يكمن في الميل الطبيعيّ للعقل البشريّ إلى الانزلاق في حالة الكسل الذّهني و الاسترخاء البليد عندما لا يتمّ قدحه على الدوام بمحفّزاتٍ تختلف نوعيّاً عن تلك المُحفّزات السائدة في حياتنا اليوميّة الكسولة الّتي أجاد ويلسون عندما وصفها بكونها شبيهة بوضعيّة الطيّار الآلي Autopilot في الطائرة : حالةٌ من التبلّد و الضجر الممتدّين بلا نهاية . كتب ويلسون عن قدرة العقل البشريّ عبر التدريب المنضبط في الوصول إلى حالة من الوعي الكامل : ذلك الوعي الشبيه بوعي الطفل في الليلة الّتي تسبق ليلة عيد الميلاد عندما يغمره الإحساس بأنّ الحياة غنيّة و مليئة بأطايب الأشياء و تعِدُ بالكثير من الآمال و التوقّعات المبهجة الّتي لطالما دعا الآباء المؤسّسون للوجوديّة جنباً إلى جنب مع الرومانتيكيّين إلى طردها و قذفها في سلّة المهملات باعتبارها زيفاً خالصاً و خداعاً ذهنيّاً. و لكن بالنسبة إلى ويلسون فإنّ وجهة النظر التشاؤميّة عن العالم هي ذاتها ما يستحقّ بكلّ جدارة و عدالة أن يوصف بالزيف الخالص ، و أنّ حالات الوعي الكامل المترافق مع تجارب الذروة Peak Experiences هي وحدها المستحقّة أن تكون شاهداً أميناً عن الحقيقة في هذا العالم ، لذلك رفض ويلسون عمل سارتر المعنون "الغثيان" وكتاب كامو المعنون "السخيف" و عدّها أعمالاً تنمّ عن كسل عقليّ ، كما إتّهم الكتّاب من أمثال سارتر و بيكيت في أحد النصوص النادرة من كتاباته بانّهم يسمّمون الثقافة الجمعيّة للمجتمع بطريقة ساخرة و مقيتة كما لو أنّ أحداً يسمّم مصدر الماء الّذي يشرب منه الجميع !! ، و لابدّ من الإشارة هنا أنّ ويلسون لم يكن ليدعو إلى توسيع تخوم الوعي البشريّ عبر تخليق أوهام ذهانيّة سمعيّة أو بصريّة تحدثها المكيّفات العقليّة ابتداءً بالكحول و صعوداً حتّى أخر قائمة المخدّرات الخطيرة الّتي تحرف المزاج الذهني و تدفع بالفرد في هوّة سحيقة بعد أن تدمّر فعالياته العقليّة ، كما لم يدْعّ الرجل يوماً إلى مخالفة التقاليد الثقافيّة المحترمة السائدة بل هو على العكس من ذلك يدفعنا دفعاً إلى الانغمار في خضمّ عمليّة ذهنيّة جدّية تقوم على الانضباط العقليّ الصارم . يرى ويلسون أن الكائنات البشريّة غارقة في طوفانٍ من الروتين البديهيّ و لطالما رأى الرجل انّ الإشكاليّات المحيقة بالوجود البشريّ ناجمةُ عن ميل الأفراد للتقليل من قيمة ما يحوزونه من قدرات جوّانيّة مخبوءة لم يختبروها من قبلُ و ربّما كان حديثهُ الواضح و المباشر في هذه المسألة يبدو للكثيرين أقرب إلى المثاليّات اليوتوبيّة على الرغم من إقرار منتقدي أعماله العتيدين بأنّ واحدةً من أهمّ سمات أعماله - و بخاصّة أعماله الأولى - هي أنّها تأسّست على قاعدة متماسكة من المنطق و العقلنة .
سواءٌ اتفقنا أم لم نتّفق فإنّ عمل ويلسون "اللامنتمي" و سلسلة الأعمال اللاحقة الّتي نحت منحاه بالإضافة إلى عمل ويلسون الضخم و المثير المعنون "التأريخ الإجرامي للإنسانيّة A Criminal History of Mankind" المنشور عام 1975 توفّر كلّها أدلّة كافية للأخذ بجدّية بحديث ويلسون عن إحداثه ثورة صغيرة في السياق الفلسفيّ السائد لأنّه استطاع إضفاء سمةٍ إنسانيّة تفاؤليّة على النزعات الوجوديّة العدميّة السائدة ، و سيثبت الرّجل مع الأيّام أنّ أعماله - و بخاصّة تلك الّتي أشرنا إليها أعلاه - تستحقّ الإشادة الكاملة و التقدير المستوجب لوجوديّ إنكليزيّ متفرّد بات أيقونةً تستحقّ عبء البحث المعمّق و القراءة الجادّة.
***
كولن ويلسون : الوجوديّ المنسيّ
ماثيو كونيام Matthew Coniam
مجلّة الفلسفة الآن Philosophy Now 2001
تعليقات
إرسال تعليق